الوقت- في قطاع غزة، حيث تتقاطع الإبادة الجماعية مع الحصار الشامل، لا تقتصر معاناة الفلسطينيين على أعداد الشهداء والجرحى، بل تمتد إلى جراحٍ أعمق وأطول أثرًا، تتمثل في الإعاقات الدائمة، وعلى رأسها فقدان البصر، فخلال حرب الإبادة التي يشنها كيان الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، تحوّلت إصابات العيون إلى ظاهرة جماعية تعكس طبيعة العدوان وأهدافه، وتكشف عن سياسة ممنهجة لا تكتفي بالقتل، بل تسعى إلى تدمير الإنسان الفلسطيني جسديًا ونفسيًا، وحرمانه من أبسط مقومات الحياة الكريمة.
تشير المعطيات الحقوقية والطبية إلى أن ما لا يقل عن 1700 فلسطيني فقدوا أعينهم بشكل كامل خلال نحو 25 شهرًا من العدوان المتواصل، في حين يواجه نحو خمسة آلاف آخرين خطر فقدان نظرهم كليًا أو جزئيًا نتيجة الحرمان من العلاج، وانهيار المنظومة الصحية، ومنع إدخال الأدوية والأجهزة الطبية التخصصية، هذه الأرقام لا تعكس مجرد أضرار جانبية للحرب، بل تكشف نمطًا متكررًا من الإصابات، يثير تساؤلات جدية حول تعمّد كيان الاحتلال إحداث إعاقات دائمة في صفوف المدنيين.
استهداف العيون: من القنص إلى الشظايا
تؤكد تقارير ميدانية وشهادات طبية أن جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي تعمّد، في العديد من الحالات، استهداف المدنيين بالقنص المباشر في العيون، وهو نمط إصابة لا يمكن تفسيره على أنه عرضي أو عشوائي، إلى جانب ذلك، أدى القصف المكثف باستخدام مواد متفجرة محرّمة دوليًا، ومقذوفات تنشر كميات هائلة من الشظايا الدقيقة، إلى إصابات معقدة في العيون والوجه، غالبًا ما تنتهي بفقدان البصر أو تشوهات دائمة.
هذا النوع من الإصابات يتطلب تدخلًا جراحيًا عالي التخصص، وأجهزة دقيقة، وعلاجًا طويل الأمد، وهي أمور باتت شبه مستحيلة في غزة المحاصرة، حيث دُمّرت المستشفيات، واستُهدفت الكوادر الطبية، ومنعت سلطات الاحتلال إدخال الأجهزة اللازمة لتشخيص وعلاج إصابات العيون الناتجة عن الحرب.
المجاعة كعامل مضاعِف للإصابات
تزامن الارتفاع الحاد في إصابات العيون مع ذروة المجاعة التي ضربت قطاع غزة نتيجة سياسة التجويع المتعمدة، اضطر آلاف المدنيين، ومن بينهم أطفال وكبار سن، إلى التوجه نحو نقاط توزيع المساعدات القريبة من مواقع انتشار جيش كيان الاحتلال، حيث كانوا يتعرضون للاستهداف المباشر أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء والمياه، في هذه النقاط، تحوّلت الحاجة إلى الطعام إلى فخٍ قاتل، وساحة مفتوحة لإطلاق النار، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في إصابات العيون، سواء بالقنص أو الشظايا أو الانفجارات القريبة.
إن ربط استهداف المدنيين بإجبارهم على التجمع في مناطق مكشوفة بسبب الجوع، ثم إطلاق النار عليهم، يكشف عن استخدام التجويع كسلاح حرب، وعن استخفاف مطلق بحياة المدنيين، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.
انهيار العلاج وخطر العمى الدائم
أدى الحصار المشدد ومنع إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى تفاقم أمراض عيون خطيرة بين سكان غزة، حتى لدى من لم يُصابوا مباشرة بالقصف، فقد سجّلت المؤسسات الصحية ارتفاعًا حادًا في حالات ارتفاع ضغط العين (الغلوكوما)، وتلف القرنية، وأمراض الشبكية، والمياه البيضاء (الساد)، وهي أمراض يمكن علاجها أو السيطرة عليها في الظروف الطبيعية، لكنها في غزة تتحول إلى حكمٍ بالعمى الدائم.
يُضاف إلى ذلك وجود نحو 2400 مريض على قوائم الانتظار بحاجة عاجلة إلى عمليات جراحية في العيون، لا تتوافر إمكانياتها داخل القطاع، هؤلاء المرضى يعيشون سباقًا مع الزمن، حيث يعني كل يوم تأخير فقدانًا إضافيًا في القدرة على الإبصار، وربما العمى الكامل، في ظل غياب أي أفق للعلاج داخل غزة أو السماح لهم بالعلاج في الخارج.
تحذيرات حقوقية وتواطؤ دولي
حذر مركز غزة لحقوق الإنسان من الارتفاع الخطير في أعداد إصابات العيون بين المدنيين الفلسطينيين، مؤكدًا أن سلطات كيان الاحتلال الإسرائيلي تواصل منع دخول الأجهزة الطبية الأساسية اللازمة لإنقاذ البصر وتشخيص إصابات الحرب، وأوضح المركز أن هذه السياسة لا يمكن فصلها عن نمط أوسع من الانتهاكات، يهدف إلى إحداث إعاقات دائمة في المجتمع الفلسطيني، وتقويض قدرته على التعافي وإعادة بناء حياته.
ورغم وضوح هذه الجرائم، يواصل المجتمع الدولي صمته، مكتفيًا ببيانات قلق لا تترجم إلى خطوات عملية، هذا الصمت لا يعني الحياد، بل يشكّل تواطؤًا غير مباشر يسمح باستمرار الإبادة والإعاقات الجماعية، ويمنح كيان الاحتلال غطاءً سياسيًا لمواصلة جرائمه دون محاسبة.
ما وراء فقدان البصر
فقدان البصر في غزة لا يعني فقط خسارة حاسة من الحواس، بل يعني فقدان الاستقلالية، والعمل، والقدرة على إعالة الأسرة، في مجتمع يعاني أصلًا من الفقر والبطالة والدمار الشامل، آلاف المكفوفين الجدد سيحتاجون إلى رعاية طويلة الأمد، في وقتٍ لا تتوافر فيه أدنى مقومات الدعم النفسي أو الاجتماعي أو الصحي، وهكذا تتحول الإصابة الفردية إلى مأساة جماعية، تمتد آثارها لعقود.
جريمة مستمرة تستدعي المحاسبة
إن ما يجري في غزة، وخصوصاً في ملف إصابات العيون، لا يمكن اعتباره نتيجة حتمية للحرب، بل هو نتاج سياسة ممنهجة ينتهجها كيان الاحتلال الإسرائيلي، تقوم على القتل، والتجويع، والتشويه، وإحداث إعاقات دائمة بين المدنيين، إنها جريمة مركبة تجمع بين استخدام القوة المفرطة، والأسلحة المحرمة، والحصار الطبي، واستهداف الفئات الأضعف.
أمام هذه الحقائق، يصبح الصمت الدولي شريكًا في الجريمة، وتتحول المطالبة بالمحاسبة إلى واجب أخلاقي وقانوني، فغزة لا تخسر أبناءها فقط، بل تُسلب عيونها واحدة تلو الأخرى، في مشهد يلخص قسوة الإبادة، ويضع العالم أمام اختبار إنساني فاضح: إما الدفاع عن الحق في الحياة والبصر، أو الاستمرار في التواطؤ مع الظلم.
