الوقت – خرج الملايين من أبناء الولايات المتحدة في يوم السبت إلى ساحات الولايات الخمسين، من أوستن إلى شيكاغو ولوس أنجلوس، ليصدحوا بحناجر واحدة: “لا للملك”، إن ترداد هذه العبارة من حشود تناهز السبعة ملايين نسمة، بعد انقضاء قرنين ونصف من عمر الجمهورية العريقة، يبدو للناظر أمراً يثير العجب، وكأن طائفةً من الشعب الأمريكي تستشعر ارتداد عجلة الزمن إلى الوراء.
وقف أحد أبناء أمريكا وسط الجموع المتدفقة كالطوفان في ميدان تايمز بنيويورك، وحين استُنطق عن مغزى هتاف “لا للملك” في نفسه، أجاب: “هذه هي قصة أمريكا بعينها؛ فآباؤنا ثاروا ضد بريطانيا لهذا المقصد عينه”.
هذه الرؤية تتقاسمها شريحة کبيرة من أبناء الشعب الأمريکي، إذ تساورهم الهواجس من ضياع حقوقهم الجوهرية وتعرض دستورهم لهجمة شعواء من قبل أنصار ترامب، وقد بلغت هذه الفكرة أوج تجليها مع افتتاح الولاية الرئاسية الثانية لترامب.
منذ الوهلة الأولى، زعم ترامب أنه يعتزم استنفاد كل الطاقات والصلاحيات القانونية للحكومة لإعادة أمريكا إلى سالف مجدها، بيد أنه تخطى الحدود وجاوز السياج، فهو بجرأة فائقة يتحدى الدستور والكونغرس ومجلس الشيوخ والشعب الأمريكي بتوقيعه على المراسيم التنفيذية، وعقب أحداث إغلاق الحكومة، كان الجميع تقريباً يترقبون مثل هذه الهبّة من الشعب.
يرى المحتجون أن تحركهم ليس من باب الترف أو الاختيار بل هو ضرورة حتمية، فترامب بنشره للحرس الوطني في المدن الكبرى قد أرسى دعائم حكم عسكري بالفعل، ولم يعد في وسعهم التعويل على الكونغرس أو المحكمة العليا؛ إذ لا سبيل للنكوص أمام حكومة استبدادية تنشد الهيمنة المطلقة.
في هذا المضمار، انضوى العديد من السياسيين الديمقراطيين في شتى المدن تحت لواء المتظاهرين، ساعين لتأجيج جذوة الرأي العام ضد إدارة ترامب؛ أمثال بيرني ساندرز وكريس مورفي في واشنطن، أو حاكم إلينوي بريتزكر الذي شهدت ولايته شيكاغو في الآونة الأخيرة صداماً عنيفاً بين قوات الدولة والمواطنين حول قضية المهاجرين.
خاطب هذا السيناتور الجماهير المحتشدة قائلاً: “ترامب ومستشاروه يتعقبون المهاجرين والسود وذوي البشرة الملونة وكل معارض سياسي، وسيستنطقنا التاريخ: ماذا صنعتم حين كان الأبرياء يُلاحقون، والحقوق الأساسية تُكبل، والدستور يتعرض للاقتحام؟”
أما إليزابيث وارن، السيناتور الديمقراطية ذائعة الصيت، فقد ردت على أنصار ترامب الذين وصفوا المتظاهرين بأنهم “أعداء أمريكا” قائلةً: “الوقوف في وجه من يطمح لأن يكون طاغيةً هو جوهر الوطنية ولبابها”، غير أن غالبية المحتجين لا يبدون تفاؤلاً إزاء مساعي الديمقراطيين لاستلاب المظاهرات.
جيف سامنر، ابن الثامنة والستين، وهو عسكري متقاعد ومحارب قديم من جورجيا، برز في المظاهرات وقد التف بكوفية حول عنقه، وصرح للصحفي: “لست راضياً عن الديمقراطيين لأنهم يبتغون التفاوض مع ترامب؛ وهل يُجدي التفاوض مع أرباب الفاشية؟ المعضلة أعمق من التأمين الصحي بكثير؛ علينا تقويض أركان نظام ترامب قبل أن تدهمنا الأيام”، إن إشارة هذا المواطن تلمح إلى الأزمة المستعرة في الكونغرس حول إقرار الميزانية، التي أفضت إلى إغلاق الحكومة.
في غضون الأسابيع المنصرمة، اصطدم الكونغرس بعنف مع إدارة ترامب بشأن مشروعات الميزانية. سعى ترامب لتقليص ميزانية الرعاية الصحية، فوقف الكونغرس صخرةً صماء في وجهه برفض المصادقة، ما أدى إلى إغلاق الحكومة طمعاً في انتزاع تنازلات من الإدارة عبر إغلاق محدود المدة، بيد أن ما لم يكن في الحسبان هو أن تلجأ إدارة ترامب في هذا المأزق إلى تسريح واسع النطاق للموظفين، وكان المبعدون في الغالب من ذوي البشرة الملونة وسليلي المهاجرين وحتى مناوئي ترامب السياسيين، وهو بالضبط المرمى الذي استهدفه منذ اعتلائه سدة الرئاسة.
في تلك الفترة، ساد الاعتقاد أن الكونغرس لم يعد أمامه مناص سوى إعادة فتح الحكومة وقبول الميزانية للفكاك من شَرَك ترامب وإبطاء وتيرة تسريح الموظفين؛ وفي هذه اللحظة الحرجة تفجرت حركة “لا للملكية”.
فما كان رد ترامب؟ في البدء، صرح بلهجة متهكمة في لقاء مع فوكس نيوز: “لست ملكاً”، لكن الأوضاع في الولايات وعلى أرض الواقع كانت تباين تصريحه تباين الليل والنهار، فعلى الرغم من تأكيد المحتجين على سلمية حراكهم، دأبت الأذرع الإعلامية لترامب على ربطهم بحركة أنتيفا اليسارية المناهضة للفاشية، واستل حكام الولايات الجمهوريون السلاح الذي أودعه ترامب في أيديهم منذ أشهر والذي كان يثير مخاوف الكثيرين: نشر قوات الحرس الوطني في المدن الكبرى بذريعة مكافحة الجريمة، وضع الحكام هؤلاء الجنود في مواجهة الجماهير، ما أضرم نار الغضب في نفوس المواطنين في تلك المدن.
والأمر الذي يثير الدهشة والاستغراب أن رد فعل ترامب على هذه الاحتجاجات، أماط اللثام عن أن هواجس معارضيه الذين يصفونه بالطاغية الشمولي، لم تكن ضرباً من الوهم أو محض افتراء.
نشر ترامب على منصته الاجتماعية صورةً له وقد اعتلى رأسه تاج وهو يمتطي طائرةً حربيةً تحلق فوق المحتجين وتلقي عليهم الفضلات، يكشف هذا الرد أن ترامب لا ينوي البتة تغيير نهجه وفكره، وإذا عجزت المؤسسات الأمريكية عن كبح جماح أعماله المناقضة للقانون، فلربما يضمر في نفسه هدف إطالة أمد رئاسته والتشبث بالسلطة إلى ما بعد عام 2028.
وعليه، فعلى الرغم من أن حركة “لا للملكية” غدت ميداناً للاحتجاج على سياسات ترامب الداخلية والتنبيه من تقويض الديمقراطية، إلا أن ردود أفعاله تومئ إلى أن المخاوف من “ترامب الملك”، قد لا تكون مجرد تهكم أو احتمال يضرب في أعماق الخيال.