الوقت – أصدرت الحكومة التركية مؤخراً مرسوماً يحمل رقم 10438 بتوقيع رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية، يقضي بتجميد أصول عشرين شخصية وثماني عشرة مؤسسة إيرانية تتصل بميادين الدفاع والبحث العلمي والطاقة والمصارف والملاحة البحرية على أراضي تركيا.
هذا المنعطف، وإن تراءى متنافراً مع نهج تركيا الذي سلكته في السنوات المنصرمة للحفاظ على أواصر التعاون الاقتصادي مع إيران، فإنه يجسّد في حقيقة الأمر تحولاً جذرياً في بوصلة السياسة الخارجية لأنقرة، متأثراً بصورة جلية بضغوط الدوائر الغربية، ولا سيما عقب مساعيها غير المشروعة لتفعيل آلية “سناب باك” (الزناد) ومزاعمها الأحادية بشأن إحياء عقوبات مجلس الأمن.
وقد تبلور هذا التحول في المسار في أعقاب لقاء جمع بين أردوغان وترامب على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويُرجَّح أنه ثمرة تفاهمات إقليمية نسجت خيوطها بين البلدين، والسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الدوافع الخفية وراء هذا التحول؟ وما مآرب أردوغان من مسايرة سياسات ترامب المناوئة لإيران؟ وما الخسائر المرتقبة لهذا النأي الاقتصادي عن طهران؟
بواعث الانعطاف التركي وغايات أردوغان من التقارب مع ترامب
1. ملف قره باغ وممر زنجيزور
تسعى تركيا في السنوات الأخيرة إلى تجسيد رؤية “العالم التركي” وإيجاد معبر مباشر يربط أراضيها بشواطئ بحر قزوين الشرقية، وهو ما يتجلى في مشروع ممر زنجيزور الطموح. هذا المشروع الذي جوبه بصدود من إيران وروسيا لاعتبارات أمنية وإقليمية، يتجه الآن صوب التنفيذ بفضل الدور الذي تضطلع به واشنطن في تيسير الاتفاق بين أذربيجان وأرمينيا في العاصمة الأمريكية، وقد رأى أردوغان في استمالة ترامب سبيلاً لتذليل العقبات أمام تحقيق أطماعه الإقليمية.
2. الملف السوري وترسيخ أقدام الجولاني
تمثّل سوريا إحدى الركائز الأساسية في السياسة الخارجية التركية. يسعى أردوغان، بعد صعود نجم الجولاني وزمرته، إلى توطيد دعائم سلطة هذه الفئة، وبالتالي تقويض تهديدات الحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا، بيد أنه يقف عاجزاً عن مدّ يد العون المالي للحكومة الوليدة للجولاني بسبب الأزمات الاقتصادية التي تعصف ببلاده، ولذلك سعى حثيثاً لرفع العقوبات الغربية عن سوريا.
وقد تجاوبت إدارة ترامب مع هذا المسعى برفع العقوبات واتخاذ موقف أشدّ صرامةً تجاه مطامح الأكراد في الشمال، حيث أدلى السفير الأمريكي في أنقرة بتصريح مفاده بأن على الأكراد تسوية خلافاتهم مع حكومة الجولاني والانحياز نحو التوافق، كما تعقد تركيا آمالاً عريضةً على قدرة إدارة ترامب في لجم جماح الآلة الحربية الإسرائيلية المتوغلة في الأراضي السورية، والإسهام في إبرام اتفاق أمني بين دمشق وتل أبيب، ما يقلّص احتمالية المواجهة العسكرية المباشرة مع "إسرائيل" على الساحة السورية.
3. انفراج في المشتريات العسكرية
تشكّل صفقات السلاح التركية مع الولايات المتحدة قضيةً بالغة الخطورة، إذ واجهت قيوداً صارمةً في عهد جو بايدن بسبب أواصر التعاون بين أنقرة وموسكو، ولا سيما عقب اقتناء منظومة الدفاع الجوي إس-400، ما أفضى إلى فرض حظر على تحديث طائرات إف-16 التركية وإرسال ذخائر متطورة، وفي المقابل، أغدقت واشنطن على اليونان وقبرص، المنافسين اللدودين لتركيا في حوض المتوسط، بطائرات إف-35 الفائقة التطور ومقاتلات إف-16 المعززة بأحدث التقنيات.
4. الوضع الداخلي التركي وسيف الضغوط السياسي
على الصعيد الداخلي، تزعزع الموقف السياسي لأردوغان مقارنةً بالأعوام الماضية، وتكبد حزب العدالة والتنمية نكسةً غير مسبوقة طوال العقدين المنصرمين من قبل خصومه السياسيين في آخر انتخابات بلدية. ويلوح في الأفق احتمال تكرار هذا المشهد في انتخابات الرئاسة، ولذلك يرى ثلة من المحللين والساسة أن تحريك ملفات الفساد ضد أكرم إمام أوغلو وسواه من قيادات الأحزاب المنافسة، ليس سوى سلاح سياسي لتحجيم أجنحة المنافسين، وفي ظل هذا المناخ السياسي المضطرب، يتطلع أردوغان إلى الظفر بدعم خارجي، ولا سيما من الولايات المتحدة، لتخفيف وطأة الضغوط الداخلية وتدعيم أركان سلطته المتداعية.
هل يمكن الركون إلى ترامب كحليف لأردوغان؟
يحفل سجل ترامب بمواقف التخلي عن الحلفاء في أحلك الظروف، ولا يمكن لأي دولة أن تضع ثقتها المطلقة فيه، فمحاور سياسة إدارة ترامب الإقليمية في غرب آسيا تدور في فلك مصالح "إسرائيل"، وهي تتقاطع في نقاط عديدة مع تطلعات تركيا.
لن تغض "إسرائيل" الطرف عن وصول تركيا إلى التكنولوجيات العسكرية المتقدمة التي قد تقوض تفوقها الجوي في المنطقة، كما أن سياسات البيت الأبيض حيال سوريا والأكراد، في ضوء انحيازها السافر لـ "إسرائيل"، من المرجح أن تسير في مسار يلحق الضرر بمصالح تركيا.
إن مساعي ترامب الرامية إلى ترسيخ هيمنة "إسرائيل" في الجولان ومد يد العون للأكراد بصورة محدودة، تنبئ عن تذبذب وانعدام الثقة في كونه حليفاً راسخ القدم لأردوغان.
التكاليف الباهظة لنأي تركيا بنفسها عن إيران
يرزح الاقتصاد التركي تحت وطأة هشاشة مستفحلة، مع معدل تضخم يتخطى حاجز الثلاثين بالمئة وضغوط مالية لا تطاق، ولم تؤت سياسة التقارب مع الغرب، ولا سيما في عهد ترامب، ثمارها الاقتصادية المرجوة، كما أن احتمالية عودة رؤوس الأموال الأمريكية تبدو ضئيلةً للغاية، نظراً لسياسة “أمريكا أولاً” التي تحول دون ذلك.
في المقابل، يمكن للتعاون الاقتصادي والترانزيت مع إيران، باعتبارها بوابة تركيا التجارية نحو أقاصي الشرق، أن يفتح آفاقاً رحبةً من المنافع الجمة، وخاصةً مع انضمام إيران إلى منظومتي بريكس وشنغهاي، اللتين تمثلان رمزاً للصمود في وجه الهيمنة الاقتصادية الغربية.
إن إرساء دعائم مؤسسات مالية وتجارية مستقلة عن النفوذ الغربي من قبل القوى الاقتصادية العظمى في الشرق، يشكّل تهديداً وجودياً لسطوة الدولار والنظام الاقتصادي الغربي، ويمكن أن يقود تركيا نحو مسلك اقتصادي مغاير وأكثر رسوخاً.
تمثّل إيران محور ممر الشمال-الجنوب، بمشاركة روسيا والهند والصين، أحد الشرايين الحيوية للتجارة المستقبلية بين الشرق والغرب، وبوسع تركيا، من خلال توثيق عرى العلاقات مع طهران، أن تضطلع بدور محوري في هذا المضمار.
خاتمة القول
تتطلع الحكومة التركية، في خضم أجواء داخلية وإقليمية شديدة التعقيد، إلى جني أقصى ثمار الدعم الأمريكي لبلوغ مآربها الطموحة، وتشكّل مشاريع مثل ممر زنجيزور، وتوطيد الأقدام في سوريا، وصفقات السلاح مع الولايات المتحدة، المحاور الأساسية لهذه الاستراتيجية، غير أن ترامب، باعتباره حليفاً متقلب المزاج وخاضعاً لإملاءات "إسرائيل"، يمثّل رهاناً محفوفاً بالمخاطر بالنسبة لأردوغان، ولا يمكن التعويل على دعمه الشامل والمستديم.
من ناحية أخرى، سيلحق وقف عجلة التعاون الاقتصادي مع إيران ضرراً جسيماً بالاقتصاد التركي المتداعي، وسيبدد فرصاً ثمينةً في مضمار التجارة مع القوى الصاعدة في الشرق. وفي المحصلة النهائية، يتعين على تركيا أن تخطو بحذر وتوازن في مسار سياستها الخارجية لاستثمار هذا التحول على الوجه الأمثل وتجنب المزالق المحتملة.