الوقت- في ظل الحرب المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023، التي حاول فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي كسر إرادة المقاومة الفلسطينية والقضاء على حركة حماس، جاء الهجوم الكبير الذي نفذته كتائب القسام على موقع عسكري إسرائيلي في خان يونس ليؤكد أن مسار الصراع لم ينتهِ وأن ميزان القوة لم يستقر لصالح الاحتلال كما يدّعي، فبعد نحو عامين من القصف والتدمير الممنهج للبنية التحتية في غزة، لا تزال كتائب القسام قادرة على مفاجأة الجيش الإسرائيلي بعمليات نوعية، تضع علامات استفهام كبيرة حول جدوى الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية وتكشف هشاشة المنظومة الأمنية والاستخباراتية التي طالما تبجحت بها دولة الاحتلال.
العملية التي وصفتها القسام بأنها الأكبر منذ هجوم السابع من أكتوبر، حملت رسائل متعددة؛ فهي من جهة برهان عملي على أن قدرات المقاومة لم تُستنزف كما كان يتوقع قادة الاحتلال، ومن جهة أخرى رسالة إلى الداخل الفلسطيني والعالم العربي بأن حماس ما زالت على الميدان، تدافع وتبادر وتدفع العدو إلى التراجع، لقد بثّت كتائب القسام مشاهد مصورة تظهر تفاصيل الاقتحام والاشتباك مع قوات الاحتلال، واستهداف دبابات الميركافا المتطورة بقذائف الياسين المحلية الصنع، وتفجير عبوات شواظ القادرة على اختراق الدروع، وهو ما أعاد إلى الأذهان لحظة المفاجأة الكبرى التي عاشتها "إسرائيل" في السابع من أكتوبر، حين انهارت تحصيناتها في ساعات قليلة.
"إسرائيل" من جانبها حاولت التقليل من أهمية العملية، وزعمت أن عدداً من المقاومين قُتلوا خلال الاشتباكات، إلا أن طبيعة رد الفعل الإسرائيلي — المتمثل في استدعاء تعزيزات عسكرية وقصف جوي مكثف على محيط خان يونس — تكشف أن ما جرى لم يكن حدثاً عابراً، بل خرقاً أمنياً صادماً أظهر من جديد عجز الجيش عن منع المقاومة من التسلل وضرب عمق مواقعها، الصحف الإسرائيلية نفسها لم تستطع إنكار حقيقة الفشل، فبعض المعلقين كتبوا بوضوح أن هذه العملية تكشف ضعف جهاز “الشاباك” وفشل خطط الجيش التي بُنيت على فرضية تفكك البنية العسكرية للقسام بعد شهور طويلة من الحصار والهجمات.
من زاوية أخرى، فإن هذه العملية تحمل قيمة معنوية هائلة، إذ إنها تبرهن على أن القسام ليست مجرد فصيل محاصر يقاتل من أجل البقاء، بل قوة منظمة قادرة على التخطيط والتنفيذ والمفاجأة، رغم اختلال موازين القوى المادية، الرسالة الأبرز هنا أن الاحتلال، مهما بلغت قوته التكنولوجية وقدرته التدميرية، لا يستطيع القضاء على روح المقاومة ولا على إرادة شعب مصمم على التحرير، ومهما حاول الإعلام الغربي تصوير حماس على أنها معزولة، فإن هذه العملية تُظهر أن الحركة لا تزال تملك زمام المبادرة الميدانية وتعرف كيف تربك حسابات العدو.
الأهم من ذلك أن العملية جاءت في توقيت سياسي حساس، مع تزايد الضغوط الدولية على حماس للقبول بخطط سلام تفرض نزع سلاحها ووضع غزة تحت وصاية دولية. ما أرادت القسام قوله عبر هذا الهجوم أن المقاومة غير قابلة للابتزاز السياسي، وأنها ما تزال تملك أوراق قوة ميدانية يمكن أن تغيّر مسار أي مفاوضات مقبلة. الاحتلال الإسرائيلي الذي يراهن على إنهاك غزة وإجبار حماس على الاستسلام، يجد نفسه اليوم أمام واقع مختلف: حركة قادرة على الصمود، ومقاتلون مستعدون للتضحية بأرواحهم من أجل الدفاع عن أرضهم، وشعب رغم معاناته يزداد تمسكاً بخيار المقاومة كطريق وحيد للتحرر.
لقد حاول الاحتلال منذ بداية الحرب أن يخلق فجوة بين المقاومة والناس في غزة، عبر الحصار والتجويع والتدمير الممنهج للبنية التحتية، لكن العملية الأخيرة في خان يونس أظهرت أن هذه الفجوة ليست كما يتصور قادة تل أبيب، وأن الشعب الفلسطيني يرى في صمود القسام بريق أمل في ظل واقع مليء بالألم، فالمقاومة، في نظر كثيرين، ليست سبباً في استمرار الحرب بقدر ما هي صمام أمان يحول دون استسلام مذل أو خضوع لمشاريع تصفية القضية، وهنا تكمن أهمية الربط بين الميدان والشارع والسياسة؛ فإذا استطاعت قيادة حماس أن تبني جسور ثقة مع الجماهير وتمنحهم رؤية سياسية متماسكة، فإن الاحتلال سيجد نفسه أمام جبهة موحدة لا يمكن كسرها.
من الناحية العسكرية، يؤكد الهجوم على استمرار تكتيك "الاستنزاف الذكي" الذي تتبعه القسام. فالعمليات النوعية، حتى وإن لم تغيّر موازين القوى بشكل شامل، تُحدث أثرها النفسي على العدو وتضعف معنوياته، وتظهر هشاشته أمام جمهوره، كل جندي إسرائيلي يشارك في العمليات داخل غزة يدرك الآن أن الموت قد يترصده في أي لحظة على يد مقاتل يتسلل من نفق أو يهاجم من مسافة صفر. هذا الخوف المزمن هو أحد أهم أسلحة المقاومة، لأنه يضرب الثقة بين الجنود وقيادتهم، ويجعل الاحتلال ينزف معنوياً حتى من دون معركة كبرى.
إضافة إلى ذلك، فإن نجاح القسام في تصنيع وتطوير أسلحة محلية مثل قذائف "الياسين" وعبوات "شواظ" يكشف عن قدرة غير عادية على الإبداع العسكري في بيئة محاصرة، هذه الأسلحة أثبتت فاعليتها ضد الدبابات الإسرائيلية، وهو ما يعزز فكرة أن المقاومة قادرة على مراكمة قوة ردع حقيقية، ومهما حاولت "إسرائيل" أن تحرم غزة من السلاح، فإن روح الإبداع لدى المقاومة تحول كل المواد المتاحة إلى أدوات مواجهة، وهو ما يشكل نقطة ضعف استراتيجية للاحتلال.
في المحصلة، ما جرى في خان يونس لم يكن مجرد اشتباك عابر، بل محطة جديدة تؤكد أن المقاومة لم تُهزم وأن الاحتلال، رغم تفوقه العسكري، عاجز عن تحقيق أهدافه الجوهرية، وإذا استمرت القسام على هذا النهج، فستظل قادرة على فرض معادلات جديدة في الصراع، وستبقى "إسرائيل" غارقة في مأزقها الوجودي: كيف يمكنها أن تنتصر على خصم لا يملك سوى الإرادة لكنه مستعد للتضحية بلا حدود؟
إن هذا الهجوم يمثل إنذاراً للاحتلال بأن معركتها ليست قريبة من الحسم، وأن ما لم يتحقق في عامين من الحرب لن يتحقق في شهور أو سنوات قادمة، لأن قوة المقاومة ليست مجرد سلاح وذخيرة، بل إيمان بعدالة قضية واستعداد دائم للشهادة، وما دامت هذه الروح حية في غزة، فلن يكون بمقدور الاحتلال أن يحقق الأمن الذي يبحث عنه، بل سيبقى عالقاً في دوامة الفشل والارتباك أمام مقاومة لا تعرف الانكسار.