الوقت- في ضوء طرح مسألة الاعتراف بفلسطين من قبل طائفة من الدول الأوروبية، وسعياً لسبر أغوار هذا التحول في الموقف الغربي ودوافعه الخفية، أجرى موقع “الوقت” التحليلي حواراً مع الدكتور إسماعيل باقري، المحلل البارز في شؤون المنطقة.
دوافع الدول الغربية للاعتراف بدولة فلسطين
استهلّ هذا الخبير في الشؤون الإقليمية حديثه بشرح جذور التحول في النهج الغربي تجاه القضية الفلسطينية قائلاً: “الحقيقة الساطعة التي لا تحجبها غيوم المراوغة، أن الدول الغربية من أشدّ المدافعين عن الكيان الصهيوني المحتل، لكنها بالنظر إلى جملة اعتبارات استراتيجية تعارض إقامة ‘إسرائيل الكبرى’ وتؤيد ظاهرياً حل الدولتين في الأراضي الفلسطينية المحتلة".
وأضاف بنبرة كاشفة: “تتوجّس أوروبا خيفةً من أن الولايات المتحدة تسعى فقط لقطف ثمار المصالح لنفسها، وأنها ستُقصى عملياً من مسرح التطورات في غرب آسيا؛ لذا شرعت في ممارسة ضغوط متنوعة على الكيان الصهيوني، فها هي إسبانيا تعلّق اتفاقيةً اقتصاديةً تناهز قيمتها سبعمئة مليون دولار، وتحذو حذوها دول أخرى في إجراءات مشابهة، والمغزى الجوهري المتصل بهذا المنحى، هو أن أوروبا تروم من خلال التلويح بحل الدولتين أن تمارس ضغطاً على تل أبيب؛ لكن هذا الحل في واقع الأمر قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وأخفقت أوروبا إخفاقاً ذريعاً في كبح جماح الغطرسة الصهيونية، أما المسألة البالغة الأهمية الأخرى فتعود إلى تنامي سخط الرأي العام، إذ لا تنقضي شمس يوم في البلدان الأوروبية دون أن ترتفع أصوات الإدانة لجرائم الكيان الصهيوني، وكل يوم تنساب في الشوارع موجات بشرية متضامنة مع أهل غزة ومعبرة عن تعاطفها معهم، وعليه، فإن الحكومات الغربية باتت محاصرةً بسخط شعوبها المتصاعد".
المسرحية السياسية الغربية في القضية الفلسطينية
ويستطرد باقري كاشفاً خبايا المشهد: “لا تتحلى أوروبا بذرة من الصدق حتى في مسألة حل الدولتين، وهي في غالب الأمر (إلى جانب محاولة استمالة الرأي العام) تتشدّق بهذا الحل بهدف إضعاف حماس، وتسعى في جوهر الأمر إلى تقويض أركانها واستبدالها بالسلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن الذي استحال إلى دمية طيعة تحركها خيوط واشنطن وتل أبيب، كل الضجيج المثار حول الاعتراف بفلسطين (وبالأخص غزة)، ليس سوى دعاية جوفاء ومسرحية سياسية مكشوفة، يُراد منها الإيحاء بأن أوروبا وبريطانيا وفرنسا وشقيقاتها تتوق لإنهاء حرب غزة؛ بينما حقيقة الأمر لا تتجاوز كونها مناورات دبلوماسية تبتغي في المقام الأول التملص من المأزق السياسي الذي تردّت فيه".
السعودية تساوم أمريكا وتبتزها
وأجاب هذا الخبير في شؤون المنطقة على سؤال حول المؤتمر الدولي لدولة فلسطين المزمع عقده على هامش الأمم المتحدة برئاسة مشتركة بين فرنسا والمملكة العربية السعودية، وطبيعة نظرة السعودية لهذه القضية وعلاقتها بالمسار الخفي للتطبيع مع "إسرائيل"، قائلاً: "هذا سؤال يلامس جوهر المشهد ويسبر أغواره.
تتخبط المملكة العربية السعودية في دوامة من التناقضات الصارخة، فالرياض من جهة تسعی وراء تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني كجزء من رؤيتها 2030 وتشكيل تكتل استراتيجي في مواجهة محور المقاومة، ومن جهة أخرى، تتبجح بدور قيادي في العالم الإسلامي ومناصرة القضية الفلسطينية، ولا يمكنها التنصل من هذا الدور كلياً. كانت السعودية تحرك خيوط اللعبة في الخفاء، وتغري الدول الخليجية بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي سفاك دماء الأطفال، وحتى قبل حرب غزة وبعدها أيضاً؛ تتظاهر علناً بدعم فلسطين، بينما تصبّ خلف الستار كل جهودها في خدمة الکيان الإجرامي.
إن عقد هذا المؤتمر برئاسة مشتركة مع فرنسا، يكشف عن مناورة ماكرة من جانب السعودية، فالرياض بتقمصها هذا الدور، تروم امتصاص غضب الرأي العام الداخلي والإقليمي المناهض للتطبيع، دون أن يدفع الكيان الصهيوني ثمناً يذكر، أي إنها تسعى لإيهام العالم العربي أنها بينما تنسج خيوط مصالحها الاستراتيجية، لم تنبذ القضية الفلسطينية أو تطرحها جانباً.
ثانياً، يمنحها هذا الموقف المتذبذب رافعة ضغط وورقة مساومة أشدّ فتكاً في المفاوضات السرية مع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، تستطيع السعودية أن تلوح لواشنطن وتل أبيب بأن التطبيع دون تقديم تنازلات جوهرية للفلسطينيين، باهظ التكلفة سياسياً للرياض ويكاد يكون ضرباً من المستحيل.
مساعي الرياض لإحياء المبادرة العربية للسلام
وشدّد باقري على أن الرياض تقف في الصف الغربي قائلاً: "رغم ما يُشاع من أن مبادرة السلام العربية السعودية ترمي إلى إنعاش وتجديد حل الدولتين، إلا أن الحقيقة الجلية هي أن الرياض، شأنها شأن الغربيين، تتوخى إبراز نفسها وتنصيب مبادرتها كالخيار الأوحد أو الخيار الوحيد الجدير بالتداول في قضية فلسطين؛ حتى مع يقينها التام أن تل أبيب ونتنياهو يناصبان العداء لإقامة دولة فلسطينية، تعلق الرياض آمالاً واهيةً على عودة إطارها المفضل إلى طاولة المفاوضات مع تبدل الحكومة في "إسرائيل"، أو تحت وطأة الضغوط الدولية المرتقبة.
والنقطة الجوهرية التي يتعين الإشارة إليها، هي أن المشهد السياسي في المنطقة قد تغير جذرياً بعد حرب غزة، وإذا كان التطبيع مع "إسرائيل" يُروَّج له في غابر الأيام كميزة، فقد استحال الآن إلى سلاح ذي حدين وأداة ضغط، بيد أن ما قد يُبعث من رقاده ليس المسار السعودي بعينه، بل الفلسفة الاستراتيجية الكامنة وراءه، حيث يُحشد التحالف العربي للدفع نحو تسوية، ولو كانت تدريجيةً، ويرتهن نجاح هذه الاستراتيجية ارتهاناً تاماً بموازين القوى والضغوط الدولية والتقلبات السياسية في الكيان الصهيوني، ويبدو بعيد المنال في الأفق القريب في ظل حكومة نتنياهو الراهنة."
مؤتمر الأمم المتحدة لغزة بلا نتائج: استعراض سياسي غربي-عربي مكشوف
وقيّم هذا الخبير في شؤون المنطقة المؤتمر الأخير بأنه عار من أي إنجاز ملموس للفلسطينيين، وصرح بلهجة حاسمة: “يجب المجاهرة بالحقيقة المرة أن هذا المؤتمر وحده لا يملك مفاتيح إنهاء جرائم "إسرائيل" الغاصبة في غزة بشكل مباشر وعاجل، والسبب الجوهري يكمن في أن "إسرائيل"، المدعومة بسخاء أمريكي لا حدود له، لم تبد حتى الآن أدنى إشارة على استعدادها لوقف آلة الحرب دون بلوغ مآربها (القضاء علی حماس عسكرياً وتحرير الرهائن)، ويفتقر هذا المؤتمر إلى آلية تنفيذية نافذة لإرغامها على ذلك. في التصويت الأخير لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، انتصبت الولايات المتحدة وحدها بسيف الفيتو في وجه أربعة عشر صوتاً، وأعطت بذلك الضوء الأخضر لاستمرار مجازر الکيان الإسرائيلي سفاك دماء الأطفال، لذا فإن الحصيلة الرئيسية لمثل هذه المؤتمرات ليست تحولاً جذرياً على الأرض، بل خطوة على طريق النضال السياسي والدبلوماسي الطويل، إعادة إضفاء الشرعية وتدويل القضية الفلسطينية على أرفع المنابر الدولية، ما يفضي إلى تعميق عزلة النظام الإسرائيلي المجرم، وإلا فلولا صرخات الاحتجاج المدوية للرأي العام العالمي، لكان الغرب والدول العربية المنبطحة تشاهد بفتور وبرود مذبحة أهل غزة.”
وفي شقٍ آخر من حديثه، اعتبر أي تسوية مجحفة بمثابة خيانة لدماء الفلسطينيين، وقال: “العودة إلى مسار التسوية بمفهومها البائد (التفاوض من موقع الضعف والخنوع إزاء الاستيطان الذي يمارسه النظام الصهيوني)، هو بلا ريب تنكّر صارخ لدماء آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين الفلسطينيين وأهل غزة المظلومين، لكن التسوية بمعناها النبيل - التفاوض لاسترداد الحقوق الأصيلة، وانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي - أمر حيوي.
في المسار الجديد، يتعين المضي قدماً على أساس الوقائع المستجدة وميزان القوى الذي صاغته حماس بتضحياتها، رغم أن حماس تواجه ظاهرياً دماراً شاملاً في غزة وتشريداً قسرياً لشعبها؛ إلا أن الحقيقة الساطعة هي أنها بأيدٍ عارية من السلاح، لكن بقلوب عامرة بالإيمان ويقين راسخ بالنصر الإلهي، استطاعت أن تُغرق العدو المدجج بأحدث الأسلحة والمدعوم من ترسانة أمريكا والغرب في مستنقع دموي لأكثر من عامين، وهو الآن يتخبط في دوامة من الانحدار المعنوي والاقتصادي والسياسي، والنقطة الأكثر إشراقاً في هذا المشهد القاتم، هي الإرادة الفولاذية لحماس وأهل غزة في مواصلة النضال والمقاومة ضد الكيان الصهيوني، وحتى هذه اللحظة ورغم كل المحن والآلام، لم ينحنوا أمام عاصفة الموت أو يرضخوا لإملاءات الکيان الصهيوني.”
الأضرار الاستراتيجية للاعتراف بفلسطين على الكيان الصهيوني
وفي ختام حديثه، كشف باقري عن الأضرار الاستراتيجية التي تلحق بالكيان نتيجة الاعتراف بفلسطين قائلاً: "إن تنامي موجة الاعتراف بفلسطين وعقد هذه المؤتمرات الدولية، يوجّه ضربات استراتيجية موجعة للكيان الصهيوني، أشدّ هذه الضربات إيلاماً هو نزع الشرعية العميق عن المشروع الصهيوني برمته. فهذا المسار يقوّض تدريجياً الرواية التاريخية المزيفة لـ "إسرائيل" التي تسوق نفسها كواحة للديمقراطية وسيادة القانون على الساحة الدولية، ويضعها في قفص الاتهام كقوة احتلال غاشمة، ومن الزاوية السياسية، تسهم هذه الإجراءات في تعميق الهوة بين "إسرائيل" والمجتمع الدولي، فحتى مع الدعم الأمريكي السخي غير المشروط، حين تتخذ دول أوروبية وازنة وفاعلون دوليون مؤثرون مثل هذا الموقف، تجد "إسرائيل" نفسها على المدى البعيد محاصرةً بسخط الرأي العام العالمي الذي يضيق الخناق على مساحة المناورة اللازمة لمواصلة سياساتها العدوانية.
وعلى الصعيد الأمني، يكمن التهديد الأعظم لـ "إسرائيل" في تطبيع وشرعنة دولة فلسطين على الساحة الدولية، يمكن لهذا التحول الجذري مع تعاقب الأيام أن يشقّ الطريق لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين قانونياً في أروقة المحاكم الدولية بتهم جرائم الحرب التي يقترفونها منذ ما يربو على سبعين عاماً في الأراضي الفلسطينية، والتي احتلوها عنوةً من خلال الاستيطان الزاحف، كما أنه يرسي دعائم قانونية راسخة لفرض عقوبات أشمل وضغوط اقتصادية دولية خانقة.
وفي خاتمة المطاف، يتعين القول إن جرائم الكيان الإسرائيلي على امتداد هذه العقود يجب ألا تمر دون حساب عسير، وعلى الدول الإسلامية وفي طليعتها محور المقاومة بقيادة إيران الإسلامية، ومع استشراف صحوة العالمين الغربي والشرقي، اغتنام هذه اللحظة التاريخية الفارقة والضغط على الكيان الصهيوني وراعيته أمريكا من خلال تعبئة الرأي العام واتخاذ إجراءات عملية حاسمة في الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإلا فإن تضييع هذه الفرصة السانحة سيكفل عملياً هيمنة الصهيونية المطلقة على مصير دول غرب آسيا ومستقبلها."