الوقت- شهدت العاصمة السورية دمشق مؤخراً مظاهرات لافتة شارك فيها المئات من المواطنين في سوق الحميدية وأحياء أخرى، رافعين شعارات تدعو إلى الجهاد ضد الكيان الصهيوني وتحرير هضبة الجولان المحتلة، هذه التحركات الشعبية جاءت في ظل تصاعد الغضب العربي والإسلامي على خلفية العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والذي تسبب بموجة تضامن واسعة النطاق في المنطقة والعالم.
المشهد السوري بدا لافتاً لكونه يعيد إلى الأذهان قضية الجولان المحتل، التي غالباً ما يتم تهميشها في ظل الأزمات الداخلية والحروب المتلاحقة، ويضعها مرة أخرى على طاولة النقاش الشعبي والإقليمي.
دلالات التوقيت
إن توقيت هذه المظاهرات ليس تفصيلاً عابراً، فخروج السوريين في وقت يعاني فيه البلد من أزمات اقتصادية خانقة وحصار دولي غير مسبوق، يعكس أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة بقوة في وجدانهم، كما أن المطالبة الصريحة بالجهاد ضد الكيان الصهيوني تكشف عن عمق الاحتقان الشعبي تجاه ما يجري في غزة، حيث تتعرض آلاف الأسر للقصف والتدمير اليومي.
التوقيت يتزامن أيضاً مع تصاعد أصوات من دول عربية وإسلامية مختلفة تطالب بقطع العلاقات أو وقف أشكال التطبيع مع الاحتلال، ما يضع المظاهرات السورية في سياق إقليمي أوسع يعبر عن عودة البعد الشعبي المقاوم إلى الواجهة.
البعد التاريخي لقضية الجولان
الجولان السوري المحتل يمثل محوراً مركزياً في هذا الحراك، فمنذ أن احتله الكيان الصهيوني عام 1967 خلال حرب الأيام الستة، بقيت هذه المنطقة رمزاً للجراح الوطنية السورية، ورغم مرور عقود، فإن الاحتلال لم ينجح في إلغاء هويتها السورية، بل بقيت قضية مركزية في أي خطاب وطني أو قومي،
المظاهرات الأخيرة لم تكتفِ بالتضامن مع غزة، بل رفعت شعارات تحرير الجولان، في تذكير واضح بأن الاحتلال الإسرائيلي لا يقتصر على فلسطين وحدها، بل يمتد إلى الأراضي السورية أيضاً، وهذا البعد التاريخي يفسر لماذا جاءت الدعوات الشعبية بصيغة "الجهاد"، فهي تعبير عن استمرارية الصراع وعدم قابليته للتسوية الجزئية.
البعد السياسي الداخلي
داخلياً، تحمل هذه المظاهرات عدة دلالات، فمن جهة، يمكن اعتبارها مؤشراً على أن الشارع السوري، رغم الانشغال الطويل في الصراع الداخلي، ما زال يرى في العدو الرئيسي متمثلاً في الكيان الصهيوني، ومن جهة أخرى، قد تشكل هذه التظاهرات رسالة ضغط شعبية على الحكومة السورية لتبني موقف أكثر صرامة أو تحرك عملي فيما يخص دعم المقاومة الفلسطينية وإعادة قضية الجولان إلى الواجهة السياسية.
كما أن هذه المظاهرات قد تكون انعكاساً لوعي شعبي بأن استمرار العدوان على غزة يهدد بفتح جبهات جديدة، وهو ما يضع سوريا، كدولة مواجهة، أمام تحديات وفرص في آن واحد.
التضامن الإقليمي والشعبي
ما يجري في دمشق لا يمكن فصله عن موجة الغضب الشعبي في المنطقة، فقد شهدت عواصم عربية وإسلامية عديدة مظاهرات تضامنية مع غزة، من عمان إلى بغداد وإسطنبول، لكن الطابع الخاص للمظاهرات السورية يكمن في أنها خرجت من دولة لا تزال في حالة مواجهة رسمية مع الكيان الصهيوني، وتحتفظ بأرض محتلة لم تستعدها بعد.
من هنا، فإن رفع شعارات الجهاد وتحرير الجولان يضيف بعداً ميدانياً وسياسياً لهذه التظاهرات، ويجعلها أكثر من مجرد حركة تضامنية رمزية، بل أقرب إلى إعلان موقف استراتيجي يربط بين القضية الفلسطينية ومستقبل الأراضي السورية المحتلة.
انعكاسات على الصراع العربي – الصهيوني
من منظور تحليلي، يمكن القول إن هذه المظاهرات تعكس عودة الزخم الشعبي إلى الصراع العربي – الصهيوني بعد سنوات من التراجع والانشغال بالحروب الداخلية، عودة الشعوب إلى الشارع ضد الاحتلال يعني أن مسار التطبيع الذي حاولت بعض الأنظمة فرضه لم ينجح في تغيير قناعات الجماهير،
كما أن رفع شعار الجهاد ضد الكيان الصهيوني قد يعيد النقاش حول جدوى المقاومة المسلحة كخيار رئيسي، وخاصة مع فشل كل المفاوضات السابقة في تحقيق تسوية عادلة، وهذا يعكس تحوّلاً في الوعي الجمعي نحو خيارات أكثر جذرية لمواجهة الاحتلال.
مستقبل الحراك الشعبي
يبقى السؤال المطروح: هل ستبقى هذه المظاهرات مجرد حدث عابر، أم أنها بداية لموجة احتجاجية أوسع تعيد القضية الفلسطينية والجولان إلى قلب المشهد السوري والعربي؟
المؤشرات الحالية توحي بأن الغضب الشعبي لن يهدأ ما دام العدوان على غزة مستمراً، وأن تكرار هذه التظاهرات في دمشق أو مدن سورية أخرى قد يعزز الضغط على مختلف الأطراف السياسية لإعادة النظر في استراتيجياتها تجاه الكيان الصهيوني.
ومع ذلك، فإن ترجمة هذا الغضب إلى فعل سياسي أو عسكري يبقى مرهوناً بالتوازنات الداخلية والإقليمية، وبالمدى الذي قد تصل إليه المواجهة مع الاحتلال خلال الفترة المقبلة.
في الختام، المظاهرات التي شهدتها دمشق للمطالبة بالجهاد ضد الكيان الصهيوني وتحرير الجولان تمثل حدثاً ذا دلالات عميقة، يتجاوز حدود التضامن مع غزة إلى إعادة الاعتبار لقضية الجولان كجزء لا يتجزأ من الصراع العربي – الصهيوني.
هذا الحراك الشعبي يذكّر بأن الشعوب العربية، رغم كل الأزمات والانقسامات، ما زالت ترى في الاحتلال الإسرائيلي عدوها الأول، وأن خيار المقاومة لم يسقط من وجدانها، وفي الوقت الذي يحاول فيه الكيان الصهيوني فرض وقائع جديدة على الأرض، فإن أصوات الجماهير من دمشق إلى غزة تؤكد أن المعركة لم تنتهِ، وأن المطالبة بالتحرير ستبقى حيّة ما دامت الأراضي العربية تحت الاحتلال.