الوقت- في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي حربه على غزة، وما يرافقها من استنزاف مالي وعسكري غير مسبوق، بدأت ملامح أزمة اقتصادية خانقة تظهر داخل كيان الاحتلال، وخصوصاً مع الانقسامات العميقة التي تفجّرت في جلسات حكومة بنيامين نتنياهو حول الميزانية.
فمع تخصيص مليارات إضافية لوزارة الحرب لتغطية النفقات المتزايدة، جاء القرار بخفض ميزانيات وزارات أساسية مثل الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي، ما أثار غضب وزراء بارزين داخل الائتلاف الحاكم، وهدد بعضهم بتعطيل سير العملية التعليمية أو وقف مشاريع حيوية في حال استمرار هذا التوجه.
هذه التطورات تعكس أزمة متعددة الأبعاد: من جهة يواجه الاحتلال نزيفاً مالياً جرّاء عملياته العسكرية وحروبه المتعددة، ومن جهة أخرى يواجه انقسامات سياسية قد تهدد استقرار حكومته الهشة، فضلاً عن حالة تململ شعبي متصاعدة نتيجة تدهور الخدمات الأساسية.
تكلفة الحرب: فاتورة تتصاعد بلا سقف
منذ السابع من أكتوبر 2023، تكبّد الاحتلال الإسرائيلي خسائر عسكرية واقتصادية غير مسبوقة، سواء في العمليات العسكرية في غزة أو في حالة الاستنفار الدائم على الجبهات الشمالية مع لبنان، فضلاً عن المواجهات المتقطعة في الضفة الغربية.
تقديرات المؤسسات المالية الإسرائيلية تشير إلى أن الحرب على غزة وحدها كلّفت حتى منتصف 2025 عشرات المليارات من الدولارات، وهو رقم ضخم بالنسبة لاقتصاد يعتمد أساساً على التكنولوجيا والاستثمارات الخارجية، وزير الحرب يوآف غالانت نفسه اعترف بأن مواجهة إيران والجبهات الإقليمية، إلى جانب الحرب في غزة، تُثقل كاهل الميزانية بشكل غير محتمل.
وزارة المالية الإسرائيلية اضطرت لإقرار حزم تقشفية قاسية شملت تقليصات في معظم الوزارات، باستثناء الأمن والجيش والمستوطنات، وهنا تبرز المعضلة: الخدمات الأساسية للمواطنين باتت مهددة، في الوقت الذي تبتلع فيه المؤسسة العسكرية القسم الأكبر من الأموال العامة.
الخلافات داخل الكابينت: وزراء غاضبون
جلسة الحكومة الأخيرة كشفت بوضوح حجم الشرخ داخل الائتلاف، فقد أبدى وزراء مثل إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي) ويوآف كيش (وزير التعليم) اعتراضاً صارخاً على اقتطاع الميزانيات من وزاراتهم.
- وزير التعليم هدد صراحةً بعدم افتتاح العام الدراسي المقبل إذا لم يتم التراجع عن التخفيضات، معتبراً أن "مستقبل الطلاب لا يمكن أن يُضحى به من أجل حرب مفتوحة بلا أفق".
- وزير الصحة حاييم كاتز حذّر من عجز وزارته عن إعادة بناء مستشفى "سوروكا" في بئر السبع، والذي تضرر في الهجمات الصاروخية الأخيرة، وأكد أن قطاع الصحة بأكمله مهدد بالشلل إذا استمر استنزاف الموارد لمصلحة الجيش.
- حتى وزراء من حزب "الليكود" أبدوا امتعاضاً من تركيز نتنياهو المفرط على تلبية مطالب المؤسسة العسكرية على حساب الخدمات العامة، معتبرين أن ذلك يضعف القاعدة الشعبية للحكومة.
هذه المواقف لا تعكس فقط خلافات إدارية، بل أيضاً حسابات سياسية انتخابية؛ إذ يدرك كل وزير أن قاعدته الاجتماعية ستنتقم في صناديق الاقتراع إذا تدهورت مستويات التعليم أو الصحة أو الخدمات الأساسية.
صورة الاقتصاد الإسرائيلي: من "المعجزة التكنولوجية" إلى اقتصاد الحرب
الاقتصاد الإسرائيلي لطالما وُصف بأنه "وادي السيليكون" الجديد للشرق الأوسط، لكن الحرب قلبت المعادلة رأساً على عقب.
- الاستثمارات الأجنبية: تقارير صحفية غربية أشارت إلى تراجع حاد في الاستثمارات الخارجية منذ بداية الحرب على غزة، بسبب المخاطر الأمنية والاضطرابات الداخلية.
- البورصة والشيكل: العملة الإسرائيلية فقدت جزءاً من قيمتها أمام الدولار، ما ضاعف أعباء الاستيراد والديون الخارجية.
- البطالة والخدمات: عشرات آلاف الجنود الاحتياط غادروا أعمالهم منذ أشهر طويلة، ما أفرغ قطاعات حيوية كالتكنولوجيا والسياحة من القوى العاملة، وأدى إلى شلل اقتصادي جزئي.
هذا التحول من اقتصاد متنوع إلى اقتصاد موجَّه نحو "المجهود الحربي" يذكّر بمراحل عاشتها دول أخرى في زمن الحروب الطويلة، حيث تنهار الخدمات تدريجياً وتتصاعد الأزمات الاجتماعية.
البعد الاجتماعي: المواطن الإسرائيلي يدفع الثمن
إلى جانب التحديات الاقتصادية، هناك انعكاسات مباشرة على المجتمع الإسرائيلي، تخفيض الميزانيات يعني:
- قطاع التعليم: تهديد بعدم افتتاح المدارس، أو تخفيض ساعات التدريس، وتقليص البرامج التربوية، وهذا يضر بشكل خاص بالفئات الفقيرة والمتوسطة.
- قطاع الصحة: تراجع مستوى الخدمات الطبية، وتأخير مشاريع تحديث المستشفيات، وزيادة الضغط على الطواقم الطبية.
- البنية التحتية والخدمات: إلغاء مشاريع طرق، ومشاريع إسكان، وغياب الدعم للخدمات الاجتماعية مثل رعاية كبار السن.
هذه التطورات تزيد من حالة القلق داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي يعيش أصلاً تحت ضغط الهجمات المستمرة وصواريخ المقاومة من غزة ولبنان.
الانقسام السياسي: هل ينهار الائتلاف؟
الانقسامات داخل حكومة نتنياهو ليست جديدة، لكنها تتفاقم مع الأزمة المالية، بن غفير، المعروف بتشدده، يحاول استغلال الموقف لتعزيز موقعه السياسي عبر تقديم نفسه كمدافع عن "حقوق المواطنين اليهود" في مواجهة "ابتلاع الجيش للميزانية".
من ناحية أخرى، أحزاب المعارضة وجدت فرصة ذهبية للهجوم على نتنياهو، حيث اتهمته بإدارة فاشلة للأزمة الاقتصادية وبأنه يجر الدولة نحو الإفلاس من أجل استمرار حرب لا نهاية لها.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تتصاعد الضغوط داخل الائتلاف، وقد تصل إلى حد تهديد بعض الوزراء بالانسحاب، وهو ما قد يفتح الباب أمام انتخابات مبكرة.
انعكاسات خارجية: المساعدات الأمريكية وحدودها
حتى الآن، يعتمد الاحتلال على المساعدات الأمريكية السخية، حيث صادق الكونغرس على حزم دعم بمليارات الدولارات لتغطية نفقات الحرب، لكن هذه الأموال مخصصة بالدرجة الأولى للتسليح والدعم العسكري، وليست لتعويض العجز في الميزانيات الداخلية.
وبالتالي، لن يستطيع نتنياهو سد الفجوات الاجتماعية عبر الدعم الخارجي، ما يجعل الأزمة داخلية الطابع بالأساس، بعض الخبراء الاقتصاديين الإسرائيليين حذّروا من أن استمرار الحرب قد يؤدي إلى هروب جماعي لرؤوس الأموال، وهو ما يفاقم العجز المالي ويزيد الضغط على الوزارات.
قراءة مستقبلية: إلى أين يتجه الوضع؟
الوضع الحالي يطرح أسئلة جوهرية:
- هل يستطيع نتنياهو الاستمرار في تمويل حرب مفتوحة بلا سقف زمني على حساب قطاعات الخدمات الأساسية؟
- وهل سيصمد الائتلاف الحاكم أمام الضغوط المتصاعدة من الداخل والخارج؟
- وما هو سقف التحمل الاجتماعي للشعب الإسرائيلي في ظل ارتفاع الضرائب وتدهور الخدمات؟
الإجابة على هذه الأسئلة ترتبط إلى حد كبير بمسار الحرب في غزة، وبمستقبل المواجهة مع حزب الله وإيران، فإذا استمرت الجبهات مشتعلة، فإن النزيف المالي سيتواصل، ومعه ستزداد الانقسامات السياسية والاجتماعية.
ما يجري في تل أبيب اليوم ليس مجرد خلاف حول أرقام الميزانية، بل هو انعكاس لأزمة وجودية يعيشها الكيان الإسرائيلي، فالحرب التي شنها على غزة لم تحصد فقط أرواح الفلسطينيين ودمرت بنيتهم التحتية، بل ارتدت أيضاً على الداخل الإسرائيلي، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
ميزانية الحرب ابتلعت ميزانيات الوزارات، والخدمات العامة باتت على حافة الانهيار، الانقسامات داخل الحكومة تتسع، والشارع الإسرائيلي بدأ يدرك أن تكلفة هذه الحرب ليست عسكرية فقط، بل هي تكلفة وجودية قد تهدد استقرار الدولة من الداخل.
بهذا المعنى، فإن الأزمة المالية داخل حكومة نتنياهو قد تكون مؤشراً على بداية مرحلة جديدة من التصدع الداخلي، لا تقل خطورة عن التحديات الأمنية التي يواجهها الاحتلال على جبهاته المختلفة.