الوقت- يعيش الكيان الإسرائيلي خلال العامين الماضيين موجة جفاف توصف بأنها الأسوأ منذ أكثر من قرن وصلت تداعيات هذه الموجة إلى تجفيف منابع الأنهار في الشمال وتهديد الأمن الغذائي وتراجع مستويات المياه في البحيرات والأنهر الكبرى مثل بحيرة طبريا ونهر الأردن والبحر الميت وعلى الرغم من خطورة الوضع، يرى مراقبون أن صناع القرار في تل أبيب تعمدوا إبقاء الأزمة بعيداً عن الرأي العام بسبب انشغالات الحرب والأزمات السياسية.
وفي هذا السياق حذّر مدير إدارة التخطيط في سلطة المياه الإسرائيلية ليئور ليفشيتس من أن بلاده تمر بأحد أسوأ أعوام الجفاف منذ قرن، وأشار في تصريحات نقلتها وسائل الإعلام العبرية إلى أن الوضع في شمال "إسرائيل"، ولا سيما منابع نهر بانياس في الجولان، بلغ مستويات حرجة من الجفاف حتى «كاد النهر أن يجف تمامًا وأكد المسؤول أن الحديث لا يتعلق بمشاعر أو انطباعات، بل ببيانات دقيقة تؤكد أن معدل الهطل المطري في موسم ٢٠٢٤/٢٠٢٥ لم يتجاوز ٦٠٪ من متوسطه السنوي، وأن بعض المناطق الشمالية تلقت أقل من نصف كمية الأمطار المعتادة.
تأثير الجفاف على الموارد المائية
أدى النقص الحاد في الأمطار إلى انخفاض مستويات المياه في البحيرات والأنهار بشكل غير مسبوق
نهر بانياس وجداول الشمال: أظهرت الصور الميدانية أن تدفق نهر بانياس، أحد روافد نهر الأردن، تقلص بشدة حتى أصبح مجرد مجرى ضحل ووفقاً لليفشيتس، توقفت زراعة المحاصيل الحقلية في الجليل الأعلى وشمال الجولان لتوفير المياه للبساتين التي لا يمكن التضحية بها.
بحيرة طبريا (بحيرة كِنِّرة): سجلت سلطة المياه انخفاضاً متواصلاً في منسوب البحيرة. ففي يناير/كانون الثاني ٢٠٢٥ ارتفع مستوى البحيرة بمقدار ٢ سنتيمتر فقط منذ بداية موسم الأمطار، ما يعني أن البحيرة ما زالت أقل بنحو ٢٠ سنتيمتر مقارنة بالعام السابق، وفي أغسطس/آب ٢٠٢٥ أفادت تقارير بأن موجة حر شديدة تسببت في تبخر عدة سنتيمترات أخرى من مياه البحيرة، لتقترب من مستوى «الخط الأحمر» الذي يحذر منه العلماء، المسؤولون عن اتحاد مدن كِنِّرة وصفوا الوضع بأنه «مؤلم» إذ يشاهدون "الجزيرة الصغيرة المقابلة لكيبوتس ماعَجان تكبر أمام أعينه".
نهر الأردن والبحر الميت: انخفضت معدلات تدفق نهر الأردن إلى ما دون نصف المتوسط الموسمي (٣.٣ متر مكعب في الثانية بدلاً من ٧ أمتار) هذا التراجع يفاقم أزمة البحر الميت، حيث انخفض مستوى سطحه بأكثر من متر سنوياً خلال العقود الأخيرة، ليصل في عام ٢٠٢٥ إلى حوالي ٤٣٩ مترًا تحت مستوى سطح البحر، انخفاض مستوى البحر الميت يؤدي إلى نشوء حفر انهيارية واسعة وإغلاق عدد كبير من المنتجعات الشاطئية.
قطاع الزراعة والأمن الغذائي
تستهلك الزراعة الإسرائيلية نحو 1.2 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، تشمل المياه العذبة والمياه المعالجة والمياه المالحة، مع تزايد السكان وانخفاض الهطل المطري، أصبح من الصعب توفير هذه الكمية، وخاصة أن القطاع الزراعي لا يرتبط بالكامل بشبكة المياه الوطنية، في هذا السياق، حذرت شركة «مكوروت» قبل سنوات من ضرورة ربط الجليل الأعلى وشمال الجولان بالشبكة الوطنية، لكن المشروع تأخر.
نتيجة لذلك، شهد عام ٢٠٢٥ تقليصاً في حصص المياه لبعض مزارعي الجولان، وقد يطال التقليص مناطق أخرى في السنوات المقبلة، توقف زراعة المحاصيل الحقلية والاعتماد على الأشجار المثمرة فقط يؤشران إلى احتمال تراجع الإنتاج الزراعي وارتفاع أسعار المنتجات المحلية.
معجزة التحلية ومفارقة الوفرة
توسع محطات التحلية للخروج من أزمة الجفاف المزمنة، اتجهت "إسرائيل" منذ مطلع الألفية الحالية إلى تبني استراتيجية تحلية مياه البحر، وحالياً تنتج ست محطات رئيسية في حيفا، عسقلان، أشدود، محطتين في شورِك ومحطة في بلماحيم (ملكية خاصة) أكثر من ٨٠٠ مليون متر مكعب سنوياً وتشير سلطة المياه إلى أن كل محطة تستهلك نحو 0.5% من إجمالي استهلاك الكهرباء الوطني، الأمر الذي يفرض أعباء كبيرة على الشبكة الكهربائية ويزيد الانبعاثات الكربونية.
يُخطط لتشغيل محطة تحلية جديدة في الجليل الغربي بحلول عام ٢٠٢۷، بعد سنوات من المعارضة المحلية كما يجري التحضير لمحطة ثامنة ستبدأ العمل بحلول ٢٠٣٢ وتهدف الخطة المستقبلية إلى رفع الإنتاج إلى 1.7 مليار متر مكعب سنوياً بحلول ٢٠٥٠، تحسباً لانخفاض متوقع في معدل الأمطار بنسبة 12% بحلول ذلك التاريخ ومن المتوقع أن ينخفض معدل الأمطار في "إسرائيل" بنسبة 12% بحلول عام 2050، مع احتمال حدوث انخفاض أكبر بنهاية القرن هذا السيناريو مرتبط بتأثيرات تغير المناخ في شرق البحر المتوسط، حيث ترتفع درجات الحرارة ويطول موسم الجفاف، انخفاض الأمطار سيعني زيادة الاعتماد على التحلية وإعادة استخدام المياه العادمة المعالجة، ما يدفع الحكومة إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية
نتنياهو وخطاب المياه لإيران
في الوقت الذي تعاني فيه "إسرائيل" من الجفاف الأسوأ منذ أكثر من مئة عام، أثار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جدلاً واسعاً عندما توجه في ١٢ أغسطس/آب ٢٠٢٥ بخطاب مصور مباشرة إلى الشعب الإيراني،
هذا الخطاب أثار استغراباً لدى كثيرين، لأنه صدر في ذروة أزمة مائية داخلية خانقة، فبينما يتحدث نتنياهو عن تصدير الحلول إلى الخارج، يجف نهر بانياس في الجولان، وينخفض منسوب بحيرة طبريا إلى مستويات مقلقة، وتنهار الزراعة في الجليل بسبب تقليص حصص المياه.
يرى مراقبون أن خطاب نتنياهو لإيران يندرج ضمن هذا السياق الدعائي؛ فهو يقدّم إسرائيل كمنقذ يمتلك مفاتيح حل أزمة المياه العالمية، فيما يتجاهل التدهور البيئي في بلاده، كما أنه يحاول تصوير فشل إيران في إدارة مواردها كدليل على تفوق «الديمقراطية الإسرائيلية»، في حين يلمّع صورة حكومته داخل المجتمع الإسرائيلي، لكن هذا الخطاب لا يغير الواقع: الواقع هو أن سكان "إسرائيل" قد يواجهون قريباً قيوداً شديدة على المياه إذا استمر الجفاف ولم تتوفر مصادر جديدة.
وأزمة الجفاف في "إسرائيل" ليست مجرد حالة طبيعية عابرة، بل أزمة بنيوية ترتبط بعوامل بيئية وسياسية وإدارية، بينما تختار القيادة الإسرائيلية تسويق نجاحها في إعادة تدوير المياه وتحليتها إلى الخارج، بدلاً من مواجهة حقيقة أن مواردها الطبيعية تستنزف وتحتاج إلى إدارة أكثر عدلاً واستدامة، ما يضاعف المفارقة أن بعض مسؤولي الحكومة يستغلون أزمة الآخرين لإبراز قدراتهم؛ فخطاب نتنياهو للشعب الإيراني مثال صارخ على ذلك، إنه يقدم نفسه مخلّصاً لبلدان تعاني من الجفاف، في الوقت الذي يمرّ فيه مجتمعه بأزمة مشابهة ربما أشد خطورة، تجاهل هذه الحقيقة ودفنها في جلبة الصراعات العسكرية والسياسية لا ينفي وجودها، بل يفاقمها، ومع استمرار الجفاف وتنامي الطلب على المياه، ستظهر الاختلالات البنيوية أكثر وضوحاً، ما يهدد الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي على حد سواء.
