الوقت- في زمن تتكاثر فيه الأزمات الدولية وتتعرّى فيه مواقف الساسة أمام الرأي العام، يخرج علينا بين الفينة والأخرى بعض الأصوات الغربية المتعالية التي تسعى لتزييف الحقائق وتلميع صورة الكيان الصهيوني، آخر هذه الأصوات كان السيناتور الجمهوري الأمريكي ليندسي غراهام، الذي قدّم خطاباً محشواً بالتناقضات، مدافعاً عن الكيان بوصفه "أوثق صديق" و"ديمقراطية محاصرة"، في الوقت الذي ترتكب فيه قواته أبشع المجازر بحق الشعب الفلسطيني. تصريحات غراهام ليست مجرد رأي سياسي، بل هي امتداد لسردية استعمارية تسعى إلى تبرير القتل الجماعي وتشويه الضحايا وتحويل الجلاد إلى بطل. والأخطر أن غراهام لم يكتفِ بالدفاع عن الكيان، بل ذهب إلى حد الادعاء بأن قطع الدعم الأمريكي عنه سيؤدي إلى "قطع الله لعلاقته بأمريكا"، في توظيف فجّ للدين بغرض شرعنة الاحتلال، أمام هذا المشهد، يصبح من واجب الإعلام الحر أن يفضح هذا النفاق السياسي وهذه المزايدات الأخلاقية الرخيصة.
تزييف الحقائق تحت شعار "الديمقراطية"
ادّعى غراهام أن الكيان الصهيوني دولة ديمقراطية تُحاصرها قوى شريرة تتربص بها، متجاهلاً أن هذه "الديمقراطية" تقوم على الاستيطان، التهجير القسري، وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، أي ديمقراطية تلك التي تحاصر شعباً بأكمله في غزة ، وتمنعه من أبسط مقومات الحياة وترتكب الجرائم ؟ إن خطابه يختزل المعاناة الفلسطينية ويصوّر الضحية كجلاد، في حين أن الوقائع على الأرض تثبت العكس تماماً.
الكيان، الذي يصفه غراهام بالديمقراطية، يمارس الفصل العنصري الممنهج، ويخالف القوانين الدولية بشكل يومي، لقد أصبح الدفاع عن الكيان الصهيوني باسم الديمقراطية ضرباً من العبث والاستخفاف بعقول الشعوب، فلو كان الكيان ديمقراطياً كما يزعم، لكان اعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولما لجأ إلى القتل والحصار كأدوات رئيسية لوجوده.
تزييف خطير
الأخطر في تصريحات غراهام ليس تبريراته السياسية فحسب، بل محاولته إدخال الدين في لعبة التحالفات السياسية، قوله إن "الله سيقطع علاقته بأمريكا إن قطعت دعمها للكيان الصهيوني" يكشف استغلالاً بشعاً للإيمان الديني لتسويق أجندة استعمارية، هذه الكلمات تحمل دلالات خطيرة، فهي تجعل من دعم الكيان ليس خياراً سياسياً قابلاً للنقاش، بل التزاماً دينياً مقدساً، مثل هذا الخطاب لا يخدم إلا لوبيات الضغط الصهيونية التي تسعى لإقناع المواطن الأمريكي بأن أمنه الروحي مرتبط ببقاء الاحتلال.
في الحقيقة، لا علاقة للدين الإلهي النقي بتبرير قتل الأطفال وتجويع المدنيين في غزة، الدين رسالة رحمة وعدل، بينما الاحتلال مشروع قمع وإبادة، ما يفعله غراهام هو محاولة خلط الأوراق لإسكات أي صوت ناقد، وجعل المعارضة للكيان الصهيوني بمثابة معارضة للإرادة الإلهية، وهو منطق خطير يهدد أسس الحوار الديمقراطي.
إنكار الإبادة وتبرير الجرائم
أكثر ما يثير السخرية والاشمئزاز في خطاب غراهام هو ادعاؤه أن الكيان الصهيوني "قادر على ارتكاب إبادة جماعية لكنه يختار ألا يفعل"! هذا التصريح يتجاهل آلاف الجثث التي سقطت تحت أنقاض غزة، ويتغافل عن عشرات آلاف الفلسطينيين الذين أزهقت أرواحهم في أقل من عامين، إذا لم يكن هذا إبادة جماعية، فما الإبادة إذن؟ هل ينتظر غراهام أن تُمحى غزة من الوجود كي يعترف بالجريمة؟ إن إنكاره لهذه الجرائم يعكس انحيازاً أعمى، بل مشاركة ضمنية في التغطية عليها، في الوقت الذي توثّق فيه المنظمات الحقوقية الدولية استخدام الاحتلال للقصف العشوائي والأسلحة المحرمة، يخرج غراهام ليمنح شهادة براءة للكيان، هذه المواقف لا تخدم سوى استمرار القتل وتكريس الحصانة للكيان الصهيوني من أي محاسبة، وهو ما يجعل خطاباته جزءاً من آلة الجريمة، لا مجرد رأي سياسي عابر.
ازدواجية المعايير في السياسة الأمريكية
خطاب غراهام ليس معزولاً، بل هو انعكاس لسياسة أمريكية مزدوجة المعايير ترى أن دماء الفلسطينيين أقل قيمة من غيرها، ففي حين تُدين واشنطن أي اعتداء على المدنيين في مناطق أخرى من العالم، فإنها تصمت أمام جرائم الكيان الصهيوني، بل تمنحه الغطاء السياسي والعسكري، غراهام بتصريحاته يعكس هذه الازدواجية الفاضحة: فهو يصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، بينما يبرر احتلالاً يستبيح الأرض والشعب، إن مثل هذه المواقف هي التي تغذي مشاعر العداء تجاه السياسات الأمريكية في المنطقة، لأنها تكشف عن عقلية استعمارية ترى في الكيان أداة للهيمنة لا شريكاً في السلام، الولايات لن تكفّ عن هذا النفاق السياسي الذي يجسده غراهام، ولن تعترف بحق الفلسطينيين المشروع في الحرية والاستقلال.
في النهاية، إن تصريحات ليندسي غراهام ليست زلة لسان عابرة، بل هي انعكاس لمنظومة كاملة من التواطؤ السياسي والأخلاقي مع الاحتلال الصهيوني، خطابه المليء بالتزييف الديني والسياسي لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من الدعم الأعمى الذي تقدمه واشنطن للكيان على حساب الدم الفلسطيني، لكن مثل هذه التصريحات لن تغيّر من الحقيقة شيئاً: أن الكيان الصهيوني قائم على الاحتلال والعنف، وأن مقاومة هذا المشروع هي حق مشروع للشعب الفلسطيني، إذا كان غراهام يرى في الدفاع عن الكيان معياراً للصواب والخطأ، فإن التاريخ سيحكم عليه وعلى أمثاله بأنهم وقفوا في صف الظالم ضد المظلوم، ويبقى السؤال: إلى متى سيظل الساسة الأمريكيون يبيعون القيم الإنسانية في سوق المصالح الانتخابية؟ الجواب يكتبه اليوم أطفال غزة بدمائهم، وسيكتبه غداً التاريخ بأحرف لا تُمحى.