الوقت- تسبّبت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، التي اندلعت في أكتوبر 2023 وامتدّت لأشهر، في تداعيات واسعة النطاق لم تقتصر على الفلسطينيين فقط، بل وصلت إلى عمق المجتمعات اليهودية خارج "إسرائيل"، ولا سيما في الولايات المتحدة، فقد أظهرت هذه الحرب، بكل ما رافقها من صور دمار ومجازر، أزمة هوية حادّة تعيشها الجالية اليهودية الأمريكية، وخصوصاً الأجيال الشابة، التي بدأت تبتعد تدريجياً عن "إسرائيل"، بل تنقلب على روايتها التقليدية للصراع.
هذا المقال التحليلي يسلّط الضوء على أبعاد هذه الأزمة، وما تكشفه من تصدّع في العلاقة التاريخية بين يهود الولايات المتحدة والدولة العبرية، في ظل حربٍ حوّلت غزة إلى رماد، وضمير العالم، بما فيه اليهود الأمريكيون، إلى ساحة مراجعة قاسية.
تحوّل في المواقف: من الدعم الأعمى إلى الانتقاد العلني
منذ تأسيس "إسرائيل" عام 1948، شكّل يهود الولايات المتحدة أحد أبرز داعميها على المستوى السياسي والمادي والإعلامي، غير أن حرب غزة الأخيرة فجّرت موجة من الانتقادات غير المسبوقة في أوساطهم، عشرات المنظمات اليهودية التقدّمية، منها "جي ستريت" و"الصوت اليهودي من أجل السلام"، عبّرت عن غضبها من العمليات الإسرائيلية، ووصفتها بـ "الوحشية" و"غير الأخلاقية"، كما نظّمت احتجاجات في نيويورك وواشنطن شارك فيها آلاف اليهود، رفعوا خلالها شعارات مثل: "ليس باسمنا"، و"اليهود ضد الإبادة الجماعية".
هذا التغيّر لا يعكس فقط تحولاً في مواقف سياسية، بل أيضاً في البنية الثقافية والأخلاقية ليهود أمريكا، وخصوصاً من ينتمون للجيل الثالث والرابع، الذين نشؤوا في بيئة ليبرالية أمريكية، تؤمن بحقوق الإنسان، وترى في الاحتلال جريمة، لا "دفاعاً عن النفس" كما تصفها الرواية الإسرائيلية التقليدية.
جيل جديد... بلا ولاء أعمى
أظهرت استطلاعات الرأي، مثل استطلاع "معهد الناخبين اليهود" الذي أجري في نوفمبر 2023، أن أكثر من 60% من اليهود الأمريكيين تحت سن الـ40 لا يؤيدون سياسات "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين، وأن نسبة معتبرة ترى أن ما يحدث في غزة هو "تطهير عرقي".
الجيل الجديد من يهود أمريكا لم يعد يربط هويته اليهودية بـ"إسرائيل"، بل يراها منفصلة عنها، فبينما كانت الأجيال السابقة ترى في إسرائيل "حلماً تحقق" و"ملاذاً آمناً لليهود"، يرى الجيل الجديد أنها تحوّلت إلى دولة استعمارية تنتهك القيم اليهودية الأصلية القائمة على العدل والتضامن.
الانقسام داخل المعابد والمؤسسات
هذا التحوّل وصل أيضاً إلى المؤسسات الدينية اليهودية، في العديد من المعابد الليبرالية، وخاصة التي تتبع التيار الإصلاحي، ظهرت توترات حادّة بين الحاخامات والأعضاء حول الموقف من الحرب، بعض الحاخامات تجرّؤوا على انتقاد الحكومة الإسرائيلية، ما أثار جدلاً واسعاً واتهامات بـ "الخيانة" من قبل التيار الصهيوني التقليدي.
وفي الجامعات الأمريكية، وخصوصاً تلك التي تضم اتحادات طلابية يهودية، مثل جامعة كولومبيا وهارفارد، اندلعت مشاحنات علنية بين الطلاب اليهود الداعمين لفلسطين، وبين مؤيدي "إسرائيل"، وصلت إلى حد الطرد من منظمات يهودية تقليدية بسبب التعبير عن مواقف مناهضة للحرب.
صراع داخلي حول الهوية اليهودية
المعضلة الكبرى التي كشفتها حرب غزة ليست فقط سياسية، بل وجودية بالنسبة ليهود أمريكا: ماذا يعني أن تكون يهودياً في زمن ترتكب فيه "إسرائيل" المجازر؟ هل اليهودية مرتبطة بالضرورة بـ"إسرائيل"، أم إنها ديانة وهوية ثقافية مستقلة؟
كثير من اليهود الشباب يرفضون تعريف هويتهم من خلال دولة قومية تستخدم الدين كأداة للتمييز، ويقول أحد الناشطين في منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام": "كوني يهودياً لا يعني أن أبرّر الاحتلال أو القتل الجماعي، بل يعني أن أكون في صف المظلومين".
هذه النظرة تعيد تعريف اليهودية بعيداً عن الصهيونية، في تحدٍ مباشر لتيار ظلّ مهيمناً لعقود في الجالية اليهودية الأمريكية.
"إسرائيل" تفقد سلاحها الناعم
كانت "إسرائيل" تعتبر الجالية اليهودية في أمركا كنزاً استراتيجياً؛ قوة ضغط هائلة في واشنطن، ومصدراً لا ينضب للدعم المالي والمعنوي، لكن هذا الكنز بدأ يتآكل، فالتبرعات إلى المؤسسات الإسرائيلية الكبرى شهدت تراجعاً، واللوبيات اليهودية لم تعد موحدة كما كانت، بل منقسمة بشدة، الأمر الذي أضعف قدرتها على التأثير في السياسة الأمريكية تجاه "إسرائيل".
اليمين الإسرائيلي، من جهته، لا يُبدي أي اهتمام لهذا التراجع، بل يزدريه، فقد صرّح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في نوفمبر 2023 قائلاً: "من لا يؤمن بأن أرض إسرائيل لنا، فليذهب إلى الجحيم، ولو كان يهودياً"، تصريحٌ يعكس ازدراء المؤسسة الصهيونية للأصوات اليهودية المنتقدة، ويُعمّق الشرخ القائم.
نحو قطيعة غير مسبوقة؟
تذهب بعض التحليلات إلى أن ما يحدث الآن هو بداية قطيعة حقيقية بين "إسرائيل" وقطاع واسع من يهود أمريكا، قطيعة لا يمكن احتواؤها عبر بيانات دبلوماسية أو حملات علاقات عامة، فهي نابعة من شعور وجودي بالانفصال القيمي والأخلاقي، وليست مجرد خلاف سياسي.
ربما لم تعد "إسرائيل" تمثّل لليهود الأمريكيين ما كانت تمثّله في السابق، فبينما كان يُنظر إليها على أنها امتداد للهوية اليهودية، أصبحت في نظر كثيرين عبئاً أخلاقياً، وهذا ما ينذر بتحوّلات عميقة في العلاقة بين الطرفين، قد تغيّر موازين القوة والنفوذ داخل أمريكا نفسها.
في الختام: حربٌ بأبعاد أوسع
ليست الحرب الإسرائيلية على غزة مجرد عدوان عسكري جديد، بل حدث كشف التحولات العميقة في المجتمع اليهودي الأمريكي، من تآكل الصهيونية كهوية جامعة، إلى صعود اليهودية الأخلاقية التي تنحاز للعدالة لا للقومية، نجد أنفسنا أمام مشهد يعيد رسم العلاقة بين "إسرائيل" وشتاتٍ يهودي طالما كان يُعتبر ركيزة وجودها.
إن ما يجري اليوم هو صراع داخلي على روح اليهودية نفسها: هل هي ديانة أم قومية؟ ضمير أم سلاح؟ عدالة أم أداة استعمار؟ والإجابة لم تعد تُصاغ في تل أبيب، بل تُكتب في شوارع نيويورك وبوسطن ولوس أنجلوس، حيث يرفع آلاف اليهود أصواتهم: "ليس باسمنا".