الوقت- في ظل الحصار الإسرائيلي المستمر والمتصاعد على قطاع غزة، وفي وقت تشهد فيه المنطقة أحد أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها، أطلق القطاع الصحي في غزة صرخة استغاثة جديدة، هذه المرة من داخل أروقة مستشفيات أنهكها القصف، وأحنى ظهرها الحصار.
مجمع الشفاء الطبي، أكبر مستشفيات القطاع وأكثرها حيوية، يقف اليوم على شفا الانهيار الكامل، مع قرب نفاد مخزون الوقود اللازم لتشغيل مولداته الحيوية.
مدير الشفاء: إن لم يصل الوقود فورًا، سنشهد ساعات حرجة
الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي، حذر في تصريحات صحفية من أن القطاع الصحي في غزة "يدخل مرحلة الموت البطيء"، وقال إن استمرار منع إدخال الوقود من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي يعني توقف الأجهزة الطبية الحيوية، كأجهزة التنفس الصناعي، محطات الأوكسجين، والحضانات الخاصة بالأطفال الخدج.
وأكد أبو سلمية أن "الاحتلال لا يُدخل الوقود إلا بنظام القطرة – قطرة، وهو أسلوب يضعنا في حالة طوارئ مستمرة ولا يمكن معه تشغيل أي مستشفى بشكل مستقر"، وأضاف: "الوضع الصحي في مستشفياتنا كارثي، وإذا لم يتم إدخال الوقود خلال ساعات، فإن مئات المرضى والجرحى سيفقدون حياتهم."
الظلام يخيم على الشفاء: إعلان رسمي بقطع الكهرباء بالكامل
في بيان رسمي صدر عن إدارة مجمع الشفاء الطبي، تم الإعلان عن انقطاع كامل للتيار الكهربائي داخل المستشفى، نتيجة نفاد الوقود وعدم توافر أي بديل لتشغيل المولدات، وذكر البيان أن المستشفى يعجز حاليًا عن تشغيل أقسام العناية المركزة، حضانات الأطفال، وأجهزة غسيل الكلى، مما يهدد حياة مئات المرضى.
وأضاف البيان: "نحن على أعتاب كارثة إنسانية غير مسبوقة، المرضى في العناية المكثفة والأطفال الخدج في الحاضنات يموتون أمام أعيننا دون أن نتمكن من إنقاذهم."
ووفقًا لإدارة المستشفى، فإن كمية الوقود المتبقية بالكاد تكفي لساعات قليلة، وإن لم يتم التزود بها فورًا، فإن مئات الأرواح ستكون في مهبّ الخطر.
لم تتوقف الكارثة عند حد انقطاع الكهرباء، بل امتدت لتشمل تدهورًا خطيرًا في الأوضاع الصحية والبيئية، حيث أعلنت إدارة الشفاء عن تسجيل حالات متعددة من مرض التهاب السحايا (المننژيت) بسبب غياب المياه الصالحة للشرب، وتدهور النظافة العامة داخل القطاع.
وأوضح الدكتور أبو سلمية أن "الاحتلال يمنع إدخال حتى أبسط المستلزمات الطبية، إلى جانب منع إدخال الوقود، ما يجعل السيطرة على الأوبئة مستحيلا، نحن أمام انهيار صحي شامل."
وزارة الصحة في غزة: الوضع يخرج عن السيطرة والاحتلال يتحمل المسؤولية
في بيان رسمي صدر عن وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، تم التأكيد على أن الوضع الصحي "لم يعد يحتمل أي تأخير أو تقاعس من المجتمع الدولي"، وقالت الوزارة إن الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياسة "الموت البطيء" بحق الفلسطينيين عبر الحصار ومنع الوقود والمستلزمات الطبية.
وأضافت: "نحذر من انهيار كامل للمنظومة الصحية في قطاع غزة، ونطالب كافة الجهات الدولية بالتدخل العاجل والضغط على الاحتلال لفتح المعابر وإدخال الوقود والمساعدات الإنسانية."
وأكدت الوزارة أن عددًا كبيرًا من المستشفيات في مختلف محافظات غزة تعاني من نفس الأزمة، وليس فقط مستشفى الشفاء، مشيرة إلى أن المستشفيات الميدانية والمنشآت الطبية الأخرى تُدار حاليًا بطريقة يدوية وبدائية بسبب غياب الكهرباء والمعدات.
صمت دولي مخزٍ ومطالبات عاجلة بفتح ممر إنساني دائم
في وقت يتصاعد فيه التدهور الصحي، يزداد الاستياء الشعبي والرسمي في غزة من الصمت الدولي المخزي، إذ لم تصدر حتى اللحظة أي مواقف حازمة من قبل المؤسسات الأممية الكبرى مثل منظمة الصحة العالمية أو مجلس الأمن الدولي، تجاه ما يجري في غزة من "قتل منظم تحت مسمى الحصار".
وناشدت وزارة الصحة كل الجهات الدولية، بما فيها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، منظمة أطباء بلا حدود، وبرنامج الغذاء العالمي، بتوفير ممر إنساني عاجل ودائم لإدخال الوقود والمستلزمات الطبية إلى القطاع.
يُذكر أن مجمع الشفاء الطبي، الواقع في غرب مدينة غزة، تعرض خلال الأشهر الأولى من العدوان الإسرائيلي لعدة هجمات دموية أسفرت عن تدمير أجزاء واسعة من بناه التحتية، من أقسام الطوارئ والعناية المركزة، إلى المشرحة ووحدات العمليات، وقد وثقت تقارير حقوقية عدة، من بينها تقرير لـ"هيومن رايتس ووتش"، استخدام الجيش الإسرائيلي للقوة المفرطة داخل محيط المستشفى، ما تسبب بمقتل وجرح العشرات من المرضى والطواقم الطبية.
ويصف العاملون في الشفاء المشهد الحالي بأنه "الأقسى منذ بدء الحرب"، إذ لا كهرباء، لا ماء، لا أدوية، والكوادر الطبية تعمل لأكثر من 20 ساعة متواصلة دون توقف أو راحة.
الأرقام تتحدث: مئات الأرواح مهددة
بحسب وزارة الصحة في غزة، فإن أكثر من 1200 مريض بحاجة يومية للكهرباء لتشغيل أجهزة حيوية، مثل التنفس الصناعي، غسيل الكلى، والأوكسجين، ومن بين هؤلاء، 47 طفلًا خديجًا يتواجدون في الحاضنات الكهربائية في مجمع الشفاء فقط.
كما أفادت الوزارة بأن عدد المصابين جراء العدوان الإسرائيلي تجاوز 65 ألف جريح، العديد منهم بحاجة لرعاية صحية مستمرة. وفي ظل انقطاع الوقود، فإن أي تأخير في تشغيل المولدات قد يؤدي إلى كارثة جماعية.
مطالبات بتحرك قانوني دولي ضد الكيان الإسرائيلي
الجمعيات الحقوقية في غزة وخارجها طالبت بدورها بفتح تحقيق دولي حول سياسات الاحتلال الممنهجة في استهداف النظام الصحي، واعتبرت أن منع إدخال الوقود إلى مستشفيات غزة يرقى إلى جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، لكونه يستهدف المدنيين بشكل مباشر ويعرض حياتهم للخطر.
وأكدت مؤسسات حقوقية أن "إسرائيل" تستخدم الوقود كسلاح ضغط سياسي وعسكري، وأن ذلك يجب أن يُدان من قبل المجتمع الدولي، ولا سيما أن القانون الدولي يحظر استخدام التجويع كأداة حرب.
قطاع يحتضر والعالم يشاهد
بينما تعيش مستشفيات غزة ساعاتها الأخيرة دون كهرباء، تقف الإنسانية على المحك، صرخات الأطفال الخدج، أنين الجرحى، وعيون الأطباء المنهكين كلها تنادي ضمير العالم، لكن دون مجيب.
فهل يتحرك العالم قبل أن تنطفئ آخر أضواء الحياة في غرف العناية المركزة؟ أم سيبقى الصمت هو اللغة الرسمية أمام هذه الإبادة الإنسانية البطيئة التي ترتكب تحت أنظار الجميع؟
في قطاع غزة، الوقود لم يعد مجرد طاقة، بل صار مسألة حياة أو موت.
