الوقت - في أعقاب العملية النوعية المؤلمة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في بيت حانون، والتي أوقعت عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى في صفوف جيش الاحتلال، بدأت تتصاعد في الداخل الإسرائيلي موجة من القلق الحقيقي، تحذّر من انزلاق الجيش إلى مستنقع حرب استنزاف طويلة الأمد في غزة.
أصوات عديدة، من محللين عسكريين وصحافيين مرموقين، وحتى بعض الجنرالات المتقاعدين، بدأت تلوّح بالمقارنة المقلقة بين غزة ولبنان، بل تذهب أبعد لتشبيه الوضع بفيتنام، الحرب التي استنزفت الولايات المتحدة لعقدين وأودت بمئات الآلاف من الأرواح.
بداية الصدمة: بيت حانون تُشعل الإنذار
عملية بيت حانون التي نُفّذت على مقربة شديدة من الحدود، لم تكن مجرد ضربة عسكرية عابرة، بل مثّلت تحولًا نوعيًا أربك التقديرات الإسرائيلية، دقة التخطيط، والجرأة في التنفيذ، وفداحة الخسائر، كلها عوامل دفعت بالمراقبين الإسرائيليين إلى إعادة النظر في مآلات هذه الحرب، لم تعد القضية مجرد صراع تكتيكي، بل تحولت إلى معضلة وجودية واستراتيجية.
المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هارئيل، عبّر بوضوح عن قلقه، متسائلًا عن جدوى الاستمرار في حرب يصفها بأنها "عقيمة ولا مبرر لها"، وخاصة في ظل تشييع خمس جنازات في اليوم نفسه الذي كان فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يجري محادثاته في واشنطن، عنوان مقاله كان كافيًا ليختصر شعورًا متناميًا: "بدون هدف".
نتنياهو والحرب المفتوحة: لا نية لإنهاء النزف
حسب هارئيل، فإن نتنياهو لا يسعى لإغلاق ملف الحرب، بل يعمد إلى تأبيدها ضمن واقع نازف ومستمر. ففي الوقت الذي يتحدث فيه المبعوث الأمريكي ويتكوف عن تقدم في مسار صفقة لتبادل الأسرى، ينوي نتنياهو التوصل إلى صفقة جزئية ثم العودة إلى القتال. بل إنه يدفع، حسب التسريبات، نحو تنفيذ ما يُسمى بخطة "المدينة الإنسانية" في رفح، عبر تجميع مئات الآلاف من سكان غزة في تلك المدينة المدمّرة.
هذا المشروع، الذي كشف عنه وزير الأمن كاتس، قوبل بسخرية لاذعة من قبل صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها بعنوان "معسكرات ترانسفير"، ووصفت فيه الفكرة بأنها ليست أكثر من خطة تهجير جماعي يُغلّفها الاحتلال بخطاب إنساني زائف، مذكرة بأن "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، حسب الرواية الإسرائيلية، يمارس تهجيرًا علنيًا باسم الإنسانية!
تحذيرات قديمة تتجدد: من لبنان إلى فيتنام
التشبيه بلبنان لم يعد كافيًا، فنداف أيال، المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، اعتبر أن الوضع تجاوز سيناريو لبنان الأولى، ليصل إلى ما يشبه "الفيتنمة" – نسبة إلى فيتنام، الحرب التي باتت ترمز في العقل الجمعي العالمي إلى الفشل العسكري المكلف والمستنقع الدموي بلا مخرج.
أما زميله رعنان شاكيد، فكتب بلغة مرّة وساخرة، مخاطبًا عائلة نتنياهو، في مقال بعنوان: "خذوا وقتكم.. فهؤلاء أولادنا فقط يُقتلون"، مهاجمًا تقاعس ابن نتنياهو، يائير، الذي يعيش في ميامي بعيدًا عن التجنيد، في الوقت الذي يُدفن فيه الجنود الإسرائيليون يومًا بعد يوم، ويقول ساخرًا: "أعطوا نتنياهو لحظة ليمد رسالة لترامب يرشّحه فيها لجائزة نوبل للسلام، أي سلام هذا؟!".
الكاريكاتير يفضح: كاتس يقود الدبابة إلى لجنة نوبل
في مشهد كاريكاتيري ساخر، نشرت "يديعوت أحرونوت" رسمًا يُظهر وزير الأمن كاتس وهو يقتحم اجتماع لجنة جائزة نوبل للسلام، يقود دبابة تحمل صورة ترامب، المفارقة الساخرة تختصر عبثية المرحلة: من يقودون الحرب يطمحون لجائزة السلام!
بيت حانون: مدينة الأنفاق التي أربكت الحسابات
يرى المحلل العسكري يوسي يهوشع أن العملية في بيت حانون كشفت تعقيدًا جديدًا في المواجهة، فالمكان، كما يصفه، بُني فوق مدينة من الأنفاق، جعلت منه نقطة تهديد حقيقية لا يمكن تحييدها بعملية سطحية أو سريعة، ويقول إن إزالة هذا التهديد تتطلب عملية عسكرية عميقة وباهظة، مشيرًا إلى أن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني استعدادًا دائمًا لمفاجآت جديدة.
الإسرائيليون... لماذا لا يحتجون؟
واحدة من أبرز المعضلات التي تثيرها هذه الأصوات هي: لماذا لا تخرج احتجاجات ضخمة في إسرائيل كما حدث أثناء اجتياح لبنان عام 1982؟ يرى بعض المحللين أن هناك حالة من الإرهاق واليأس من حكومة لا تعبأ بمطالب الشارع، إلى جانب نزعة انتقامية متجذّرة لدى جزء من الرأي العام الإسرائيلي، تدفعهم لتأييد الاستمرار في الحرب رغم أثمانها.
الجنرال يتسحاق بريك، المعروف بلقب "نبي الغضب"، عاد ليكرر تحذيراته في مقال نشرته "هآرتس"، معتبرًا أن الحديث عن "القضاء على حماس" هو وهم خطير، في ظل ثقافة الكذب التي تسود الجيش، وقيادة عسكرية غير كفوءة، وانعدام الانضباط.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن "إسرائيل" تجد نفسها أمام معضلة تاريخية، لا تحلها القوة العسكرية ولا تغطيها الشعارات.
بين "فيتنام" و"لبنان"، بين خطة "المدينة الإنسانية" ومعسكرات "الترانسفير"، تبدو "إسرائيل" وقد علقت في حرب بلا أفق، بينما تستنزف أرواح جنودها، وتكشف نفسها أمام العالم، لا كدولة متقدمة ديمقراطية، بل كقوة محتلة تبحث عن نصر في سراب.