الوقت - عقب يومين من العملية الإرهابية والغارة الجوية التي شنها الكيان الصهيوني، أطلقت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سويعات الفجر الأولى من يوم الأحد المرحلة الثانية من عملية “الوعد الصادق 3” الهجومية المركبة، حيث شقت صواريخ وطائرات مسيرة تابعة للحرس الثوري الإيراني عباب سماء الأراضي المحتلة، مخترقةً شتى طبقات الدفاع الجوي للكيان، لتصيب أهدافها المرسومة سلفاً بدقة متناهية.
في أعقاب هذه العملية الظافرة الباهرة، كشف المتحدث باسم الحرس الثوري النقاب عن قائمة الأهداف الاستراتيجية التي طالتها يد الردع الإيراني، بما فيها المصافي ومستودعات الوقود ومختبرات تصنيع وقود المقاتلات، مؤكداً أنه إذا تمادى الكيان في غيه وعدوانه، فإن سلسلة العمليات ستتواصل بوتيرة متصاعدة وقدرة تدميرية متعاظمة.
وفي خضم هذه الأجواء، وبالنظر إلى أن الكيان الصهيوني - رغم إخفاقاته المتلاحقة والمعضلات التي اعترضت سبيله في حرب غزة - استطاع بفضل المساندة الغربية المطلقة، ولا سيما من الإدارة الأمريكية، أن يواصل عدوانه وإبادته الجماعية في غزة طيلة ثمانية عشر شهراً متتالية، وفي ظل مزاعم المسؤولين السياسيين والعسكريين في تل أبيب بالتخطيط لمواصلة هجماتهم على إيران؛ يطفو على السطح سؤال محوري: أيمتلك الكيان الصهيوني مقومات مواصلة الحرب لأسابيع وشهور متعاقبة، أم أن ذلك ضرب من المستحيل؟
للإجابة عن هذا التساؤل الجوهري، نستعرض أبرز العوامل المؤثرة في المقارنة بين قدرة إيران والكيان الصهيوني على الصمود، ولماذا تواجه الأراضي المحتلة وضعاً داخلياً أشدّ هشاشةً وأكثر تصدعاً مما كانت عليه حتى قبل اندلاع حرب غزة.
أهداف حيوية في عملية الوعد الصادق 3
من أشدّ العقبات التي تعترض سبيل الكيان الصهيوني في إطالة أمد الحرب مع إيران، قصور منظومات دفاعه الجوي وهشاشتها الفادحة أمام موجات الهجمات الإيرانية المتصاعدة في الأيام المقبلة. فعلى مدار اليومين المنصرمين، وعلى الرغم من وجود طبقات دفاعية متعددة كمنظومات “آرو” (السهم) و"باتريوت" و"مقلاع داود" و"ثاد" و"القبة الحديدية" التي استنزفت خزائن الكيان بتكاليف باهظة لحماية سماء الأراضي المحتلة، اخترقت الصواريخ الباليستية والفرط صوتية الإيرانية المتطورة هذه الحصون الدفاعية بيسر وسهولة، وأصابت أهدافها بقدرة تدميرية فائقة.
وفي هذا المضمار، أتاحت تجربتا عمليتي “الوعد الصادق 1” و"الوعد الصادق 2" معلومات وخبرات ثمينة للقوات المسلحة الإيرانية حول سبل مجابهة نظام الدفاع المتطور للكيان، وقد استُثمرت هذه الخبرة النفيسة بكفاءة عالية في موجات عملية “الوعد الصادق 3”.
والآن، في حين أثبتت منظومة الدفاع الجوي الإيرانية قدرتها الفذة بإسقاط مقاتلات “إف-35” المتطورة والطائرات المسيرة المتخفية عن الرادار، محولةً حلم نتنياهو بتعطيل القدرات الدفاعية الإيرانية في الضربة الأولى إلى كابوس مرعب، قلبت الصواريخ والمسيرات الإيرانية موازين القوة العسكرية رأساً على عقب. فتعطيل أنظمة الدفاع الجوي في الهجمات الصاروخية، وتدمير القواعد الجوية، خاصةً قاعدة “نيفاتيم” التي تُعد المقر الرئيسي لمقاتلات “إف-35”، والإخلال بنظام إنتاج وقود المقاتلات، كلها عوامل تقطع الذراع الرئيسية للقوة العسكرية للكيان، في حين تستطيع إيران الحفاظ على قدراتها الهجومية بفضل مخزوناتها المتعددة والمتنوعة من الصواريخ والمسيرات.
وفي هذا السياق، تتسع رقعة الأهداف العملياتية الإيرانية من حيث أهميتها الاستراتيجية، متجاوزةً القطاع العسكري إلى البنى التحتية والاستراتيجية، مما يعني اختلال توازن الرعب بين طرفي المعادلة. ولا يمكن بحال من الأحوال المقارنة بين إيران والكيان الصهيوني من حيث الاعتماد الاقتصادي على الأسواق الخارجية. فإيران تلبي احتياجاتها اللوجستية والاقتصادية وسوق استهلاكها من داخل أراضيها، وهي مكتفية ذاتياً في غالبية هذه القطاعات، بينما يعتمد الكيان اعتماداً كلياً على الواردات، ولا يمكنه تحمل الاضطراب في أداء بنيته التحتية للنقل إلا لفترة وجيزة للغاية.
وفي هذا الصدد، ومع توسيع نطاق الأهداف العسكرية المشروعة لإيران لتشمل موانئ ومطارات الكيان، يمكن توقع أن تواجه حكومة الكيان في غضون فترة وجيزة عقبات جمة في تلبية الاحتياجات الداخلية، وإدارة الشؤون اليومية للمجتمع الصهيوني.
العمق الاستراتيجي المتباين
العامل المؤثر والجوهري الآخر في تحديد مدى القدرة على الصمود في أتون الحرب يتعلق بالخصائص الجغرافية، لا سيما العمق الاستراتيجي والرقعة الإقليمية والموقع الجيوسياسي. فالأراضي المحتلة من حيث المساحة أضيق حتى من أصغر محافظة إيرانية، وفي الوقت نفسه، تتسم بكثافة سكانية تفوق بكثير أشدّ المناطق الحضرية ازدحاماً في إيران، إذ يتركز سبعون بالمئة من سكانها في العاصمة تل أبيب، مما يعني افتقارها إلى العمق الاستراتيجي الكافي لتحمل وطأة الضربات الصاروخية على مدى فترة زمنية ممتدة.
وقد أفضت المعضلة الجيوسياسية أساساً إلى جعل العقيدة العسكرية للكيان ترتكز على ثلاثة مبادئ: الحرب الاستباقية ومباغتة العدو، ونقل الحرب خارج الحدود، وقصر مدة الحرب، مما يعكس عجز الكيان عن خوض حروب استنزاف. ورغم أن الكيان تجاوز مبدأ تقصير مدة الحرب في حرب غزة، إلا أن ذلك كان أولاً بسبب التأثيرات الاستراتيجية والمصيرية لنتيجة الحرب على مستقبل بقاء الكيان والحياة السياسية لنتنياهو، وثانياً بسبب الإخفاق الذريع في تحقيق أي نتيجة مرجوة من الحرب.
ومما لا مراء فيه أن استمرار الهجمات الصاروخية والمسيرة الإيرانية الساحقة في الأيام المقبلة، والتدمير التدريجي للبنى التحتية المحدودة وغير القابلة للاستبدال في بعض الأحيان، سيضع جيش الكيان وحكومة نتنياهو أمام أزمة عاصفة. فعلى سبيل المثال، يعتمد الكيان في توفير شطر وافر من المياه للاستخدام الحضري والزراعي على منشآت تحلية المياه، وفي حال تدمير هذه المنشآت، ستجتاح الأراضي المحتلة أزمة مياه خانقة.
وفي مثال آخر، إذا تعرضت المنشآت النووية للكيان - كأحد الأهداف الرئيسية للهجمات الإيرانية في الأيام المقبلة - للإصابة، فإن أي تسرب إشعاعي قد يحيل مساحات شاسعة من الأراضي المحتلة إلى مناطق غير صالحة للسكن. وحتى مع استذكار إخلاء المدن الشمالية في الأراضي المحتلة من سكانها، خلال هجمات حزب الله اللبناني دعماً لغزة، واجهت حكومة نتنياهو ضغوطاً هائلةً من المستوطنين النازحين.
في المقابل، تمكنت إيران بفضل اتساع رقعتها الجغرافية وتنوع أقاليمها المناخية عبر تاريخها العريق، من الصمود أمام الغزوات الخارجية والحفاظ على قدراتها العسكرية وبنيتها التحتية، كما أن منشآتها الصاروخية والمسيرة تحت الأرض لم تتعرض لأضرار جسيمة رغم الهجمات الجوية الأخيرة، وما زالت آلاف الصواريخ متأهبةً للانطلاق نحو عمق الأراضي المحتلة.
الوحدة الداخلية ودعم الرأي العام لاستمرار الحرب
يكتسي الحفاظ على التماسك والوحدة الداخلية في إدارة أتون الحروب أهميةً قصوى. فالعديد من المعضلات والمشكلات في زمن الحرب يمكن تذليلها من خلال الحفاظ على اللحمة الداخلية والتعاضد والتضحية والتفاني من قبل أبناء الوطن، مما يشكّل سنداً ورصيداً ثميناً للدولة وقواتها المسلحة في خوض غمار الدفاع أو الحرب.
وفي هذا المضمار، وفي حين أحدثت حرب غزة وتداعياتها الجسيمة على الصعيد الاقتصادي والعسكري والأمني والمعنوي والخسائر البشرية، تصدعاً عميقاً داخل الأراضي المحتلة بين الصهاينة، حيث يطالب قطاع واسع منهم، خاصةً العسكريين، بوقف الحرب في غزة وإطلاق سراح أسراهم، ويرون الحرب كوسيلة لتحقيق مآرب نتنياهو والمتطرفين في حكومته، فإن تصاعد تكاليف المواجهة مع قوة إقليمية عظمى مثل إيران في الأيام المقبلة، سيفضي حتماً إلى توسيع الشرخ الداخلي وتفكك النسيج الاجتماعي بشكل أعمق. وحالياً، يطرح الكثيرون تساؤلاً ملحاً: في ظل تهديد الهجمات الصاروخية الإيرانية لأرواح الصهاينة، أين يختبئ نتنياهو؟
في المقابل، على الجبهة الداخلية الإيرانية، أدى الهجوم الغادر والعمل الجبان المتمثل في اغتيال قادة الحرس الثوري وإزهاق أرواح النساء والأطفال الأبرياء، إلى رصّ صفوف الشعب الإيراني وتوحيده أكثر من ذي قبل، وأجّج روح الوطنية لدى الإيرانيين للذود عن حياض وطنهم. فاستشهاد القادة الإيرانيين العظام، رغم كونه فاجعةً كبرى، إلا أنه وسط الدعم الجارف من الرأي العام للمقاتلين والمدافعين عن الوطن، حلّ محل هؤلاء القادة رجال أشداء متفانون آخرون لكيلا تبقى خنادقهم خاليةً.
تماسك النظام السياسي
قضية جوهرية أخرى تتعلق بالحفاظ على تماسك النظام السياسي، مما يضمن ألا تؤدي الخلافات والنزعات السياسية المتباينة، إلى الإخلال بواجبات وأداء السلطات الحكومية والعسكرية المنسق لتحقيق الأهداف الدفاعية.
حدث هذا الأمر حتى في الكيان الصهيوني نفسه في مستهل الحرب، ففي حين كانت أزمة الجمود السياسي تعصف بالأراضي المحتلة بعد عدة جولات من الانتخابات المتعاقبة وتشكيل حكومات متداعية، حاول الصهاينة مع اندلاع الحرب التغلب على الخلافات بتشكيل حكومة شاملة وكابينة حرب موسعة.
بيد أن هذا الأمر لم يدم طويلاً، وأفضى الإخفاق في تحقيق النتائج المعلنة سلفاً في الهجوم على غزة، إلى نشوء وتفاقم الخلافات في حكومة الحرب، حيث استقال أولاً بيني غانتس، زعيم معارضي نتنياهو، من الحكومة في يونيو 2024، ثم أدى استمرار هذا المنحى وانسحاب أحزاب أخرى من ائتلاف الحكومة، إلى وضع تحالف المتطرفين في البرلمان على شفا الانهيار.
وكان وقع هذا الوضع على الاستقرار السياسي الداخلي للكيان بالغ الخطورة، لدرجة أن بعض الخبراء الصهاينة يعتقدون أن نتنياهو قامر عسكرياً بشنّ هجوم جديد على إيران للحفاظ على تماسك الائتلاف الحكومي ومنع تداعي الدولة، لأن هذه المبادرة اتُخذت في خضم تهديد اليهود الحريديم بالانشقاق عن ائتلاف الحكومة، بسبب تقديم مشروع قانون التجنيد الإلزامي لهم إلى البرلمان.
في ظل هذه الظروف، ستعزز الضربات الإيرانية الأشدّ وطأةً في الأيام المقبلة، حتماً موقف المعارضة في التشكيك في استراتيجية حكومة نتنياهو لضمان أمن الأراضي المحتلة، وربما تُفتح ملفات قضائية أخرى ضده في هذا المضمار.
التكاليف العسكرية الباهظة
تعني الحرب مع قوة عسكرية أعظم بالنسبة للكيان الصهيوني، المزيد من الدمار والأعباء المالية، والمزيد من التجنيد، وتسارع الهجرة المعاكسة، وهروب رؤوس الأموال، وتزايد القتلى والجرحى، وبشكل عام، تضخم فاتورة الحرب لاقتصاد الكيان المتعثر هذه الأيام.
وبحسب ما تزعمه صحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن كل يوم من الحرب مع إيران يكبد الكيان أكثر من مليار دولار. ففي حالة واحدة فقط، في حين أن الصواريخ والمسيرات الإيرانية تُصنع بتكنولوجيا وطنية وبتكلفة أقل بكثير من النماذج الأجنبية، فإن إطلاق كل صاروخ دفاعي للكيان بمختلف أنواعه، يستنزف من مليون إلى مليوني دولار أو أكثر. وهذا يعني أن إطالة أمد الحرب ستلتهم الموارد الاقتصادية للكيان.
وجدير بالذكر أن حيفا وحدها تمثّل أكبر قطب صناعي في شمال فلسطين المحتلة، وتحتضن شطراً وافراً من الصناعات الرائدة للكيان التي تشكّل الركيزة الأساسية لاقتصاد الكيان الصهيوني، وتسهم بقسط وافر في التنمية الاقتصادية والتكنولوجية لـ "إسرائيل". وإن فتح خط نيران الصواريخ الباليستية والفرط صوتية نحو هذه المنطقة منذ الليلة الماضية، يقوّض بشكل جذري قدرة الكيان على الصمود.
الوضع العالمي والإقليمي
أفضت تداعيات حرب غزة وإزهاق أرواح آلاف الأبرياء، خاصةً النساء والأطفال، التي أدت إلى تشكيل حركة مقاومة عالمية ضد جرائم الكيان الصهيوني، إلى جعل أسطوانة التباكي واستدرار العطف التي اعتاد الصهاينة ترديدها تاريخياً غير مقبولة عالمياً، وأضحى الرأي العام في المنطقة والعالم، يدرك أن الصهاينة هم المحرضون الرئيسيون على الحرب والمحتلون الغاصبون.
هذه السمعة المشينة عالمياً، تجعل دعاية وسائل الإعلام الغربية في توجيه الرأي العام العالمي لقلب الحقائق وتبديل مواقع المعتدي والمدافع عن النفس بشكل مشروع، محاولةً بائسةً محكومةً بالفشل. وهذا يتيح للجمهورية الإسلامية أن تعمل بحرية أوسع لمعاقبة الكيان الصهيوني، وجعله يتجرع كأس الندم على خطئه الفادح في الحسابات الذي ارتكبه بغطرسة وتهور.