الوقت- منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، باتت البنية الصحية في القطاع هدفًا مباشرًا ومتعمّدًا لآلة الحرب الصهيونية، لم تعد الجرائم تقتصر على استهداف المدنيين في منازلهم أو أثناء فرارهم من مناطق القصف، بل امتدت لتشمل المستشفيات والطواقم الطبية والمرضى، في سياسة ممنهجة تهدف إلى تدمير النظام الصحي كأداة لفرض التهجير الجماعي والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين.
الاقتراب من الموت الجماعي
في بيان رسمي صدر يوم الأحد عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، حذّرت السلطات الصحية من أن القطاع المحاصر يقترب من "الموت الجماعي"، وسط انهيار شبه كامل في النظام الصحي، وانعدام الأدوية، والوقود، والكهرباء في المستشفيات، ووصفت الوزارة الوضع بأنه "جريمة تطهير عرقي" ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في محاولة لإفراغ غزة من سكانها، من أجل فرض مشروع استيطاني جديد في القطاع.
استهداف المستشفيات كسياسة عسكرية
ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال المستشفيات في غزة، لكن هذه المرة تختلف من حيث الحجم والتخطيط والنتائج، فالمستشفيات، التي يُفترض أن تتمتع بالحماية الكاملة بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، تحولت إلى أهداف رئيسية للطيران والمدفعية الإسرائيلية، أكثر من ١٩ مستشفى أُجبر على التوقف الجزئي أو الكلي عن العمل، فيما لم يتبقَ إلا عدد محدود جدًا من المراكز الطبية، التي تعاني بدورها من انعدام الوقود ونقص المعدات والأدوية.
وفق بيان وزارة الصحة، فإن قوات الاحتلال تمنع بشكل متعمد وممنهج وصول الوقود إلى المستشفيات، وتدّعي أن مخازن الوقود تقع في "مناطق حمراء"، أي مناطق تعتبرها "إسرائيل" مناطق عمليات عسكرية، ما يجعلها خارج نطاق المساعدات الإنسانية، وهو ما وصفته وزارة الصحة بأنه "خدعة قانونية لتجويع المرضى وقتلهم ببطء".
القطاع الصحي كأداة للتطهير العرقي
حسب بيان وزارة الصحة، فإن "إسرائيل" لا تكتفي بمنع إدخال المساعدات الطبية والوقود، بل تقوم بـ"تفكيك مقصود للبنية الصحية في غزة"، معتبرة ذلك وسيلة فعالة لدفع السكان نحو النزوح القسري، ضمن مشروع سياسي وعسكري يرمي إلى تغيير التركيبة السكانية للقطاع.
ما يحدث هو تدمير ممنهج للمستشفيات وتعطيل متعمّد للخدمات الطبية، في وقت يتعرض فيه السكان لأشرس حملات القصف، لا يوجد مكان آمن في غزة، حتى المستشفيات أصبحت أهدافًا، ولم تعد مراكز العلاج ملاذًا للجرحى أو المرضى، بل تحولت إلى نقاط محاصرة مهددة بالانهيار في أية لحظة
وفي مقابلة مع قناة الجزيرة، قال مدير عام وزارة الصحة في غزة: "بعد ٤٨ ساعة، ستتحول مستشفيات غزة إلى مقابر جماعية بسبب نفاد الوقود، نحن نناشد العالم الإسلامي والمجتمع الدولي: إلى متى هذا الصمت؟". وأضاف: "لدينا نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، شاحنات منظمة الصحة العالمية عالقة في العريش ولا يُسمح لها بالدخول، نفذنا خطط طوارئ، ولكن الآن نواجه الانهيار الكامل".
تصريحات المسؤولين المحليين تكشف عن عمق الأزمة: غرف العناية المركزة معطلة، أجهزة غسيل الكلى لا تعمل، الحضّانات الخاصة بالمواليد مهددة بالتوقف، والمرضى المصابون بجروح حرجة يُتركون دون تدخل طبي فعال، القطاع الصحي في غزة في طور الانهيار الكامل، والكارثة الصحية قد تتحول إلى كارثة إنسانية عالمية.
الصمت الدولي والتواطؤ
وسط هذا المشهد المروّع، يخيّم صمت دولي مريب، المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، تكتفي ببيانات خجولة لا ترتقي إلى حجم الجريمة، في الوقت ذاته، يستمر الاحتلال في منع إدخال المساعدات الإنسانية، ويرفض السماح للطواقم الطبية بالدخول أو الإجلاء، رغم المناشدات المتكررة.
هذا الصمت لا يمكن تفسيره إلا بالتواطؤ أو العجز، وكلاهما جريمة في ظل ما يحدث، تجاهل هذه المأساة الصحية يعبّر عن سقوط أخلاقي فاضح للمنظومة الدولية، التي لطالما تباهت بحقوق الإنسان و"القانون الدولي".
جرائم موثقة بحق البنية الصحية
التقارير الحقوقية الدولية والفلسطينية توثق عشرات الهجمات الإسرائيلية المباشرة على المستشفيات والمراكز الصحية وسيارات الإسعاف، في خرق واضح للقانون الدولي، من هذه الجرائم:
- استهداف مستشفى الشفاء، وهو أكبر مستشفيات غزة، أكثر من مرة.
- تدمير مستشفى الأندونيسي في شمال القطاع بشكل شبه كامل.
- قصف مركز الولادة في مستشفى ناصر بخان يونس.
- منع إدخال الوقود إلى مخازن خاصة بالمستشفيات، ما أدّى إلى تعطل الأجهزة الحيوية.
كما رُصدت حالات قنص ضد الطواقم الطبية، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المصابين، ما تسبب في وفاة العشرات الذين كان بالإمكان إنقاذهم.
أبعاد الكارثة: أرقام وشهادات
تظهر الإحصائيات حجم الفاجعة:
- من أصل ٣٨ مستشفى في غزة، ١٩ فقط ما زالت تقدم خدمات محدودة، منها ٨ حكومية و١١ خاصة.
- ٩ مستشفيات ميدانية تُستخدم لعلاج الإصابات الحرجة، لكنها تفتقر إلى المعدات المتقدمة.
- أكثر من 180 ألف شهيد وجريح منذ بداية العدوان.
- أكثر من 11 ألف مفقود، وسط مؤشرات بوجود جثث تحت الأنقاض في محيط المستشفيات المستهدفة.
رسالة إلى الضمير العالمي
إن ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد "أزمة إنسانية"، بل جريمة إبادة جماعية تُرتكب على مرأى ومسمع العالم، استهداف المستشفيات والمرضى ليس "أضرارًا جانبية" كما يدّعي الكيان الإسرائيلي، بل هو سياسة مقصودة ومكرّسة لتركيع الشعب الفلسطيني ودفعه إلى القبول بالهزيمة أو الرحيل.
الصمت لم يعد خيارًا أخلاقيًا، على المجتمع الدولي أن يتحرك فورًا لوقف العدوان، وفرض السماح بدخول الوقود والمساعدات، وإنقاذ من تبقى من المرضى والجرحى، وعلى الدول الإسلامية والعربية أن تتحمل مسؤولياتها أمام هذه الكارثة، سياسيًا ودبلوماسيًا وميدانيًا.
الاحتلال لا يقتل فقط بالقنابل، بل أيضًا بمنع الأدوية، وقطع الكهرباء، وتجويع المرضى، المستشفيات في غزة تُصارع للبقاء، والطواقم الطبية تعمل في ظروف غير إنسانية، بينما يواصل الاحتلال مشروعه الإجرامي في إبادة سكان القطاع تحت أنظار عالم فقد بوصلته الأخلاقية.
إنها حرب ضد الحياة ذاتها، وضد كل ما يُمثّل الإنسانية.