الوقت- تعيش دولة الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أكثر مراحلها اضطراباً منذ تأسيسها، إذ تشهد شوارعها تظاهرات حاشدة تندد بسياسات حكومة بنيامين نتنياهو وتطالب بانتخابات مبكرة، وإنهاء الحرب على غزة، وإنقاذ ما تبقى من ثقة الشعب بمؤسسات الدولة، حيث خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع، بدعوات من نشطاء سياسيين وعسكريين سابقين وجمعيات مدنية، ورفعوا شعارات تتهم الحكومة بدفع الدولة نحو الهاوية.
تحذير نادر من نتنياهو: "الدولة تتفكك"
في هذا السياق، أطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تحذيراً علنياً غير معتاد، قال فيه إن "إسرائيل" تواجه "خطر التفكك من الداخل"، وأوضح، خلال اجتماع وزاري مغلق سُربت تفاصيله إلى الإعلام، أن موجة الاحتجاجات والخلافات الحادة داخل المجتمع الإسرائيلي تُنذر بانهيار تدريجي في وحدة الدولة، مضيفاً: "نحن نواجه تآكلاً خطيراً في الشرعية الوطنية، وإذا استمرت هذه الحالة، سنفقد تماسكنا كمجتمع وكدولة" (هآرتس، 2025/6/6).
تصريحات نتنياهو تعكس إدراكاً متزايداً داخل القيادة الإسرائيلية بأن الانقسام الداخلي بات يهدد الدولة من أساسها، وخصوصاً مع اتساع رقعة الغضب الشعبي، وتزايد المطالب بإعادة النظر في البنية السياسية والمؤسساتية القائمة.
أزمة الثقة في القيادة والجيش
أحد أخطر مظاهر الأزمة يتمثل في الشرخ بين الحكومة ومؤسسة الجيش، فقد أعلن مئات من جنود الاحتياط، وبينهم ضباط في وحدات نخبة، رفضهم الخدمة العسكرية في ظل ما وصفوه بـ"التوظيف السياسي للجيش". كما وقع عشرات الطيارين المتقاعدين على عرائض تطالب بوقف العمليات العسكرية غير المفوضة برلمانياً. هذه المواقف تشير إلى تراجع الثقة بين القيادة السياسية والجيش، الذي لطالما اعتُبر ركيزة الاستقرار في دولة الكيان الإسرائيلي.
وتتزامن هذه الأزمة مع استمرار الحرب على غزة، والتي لم تحقق أهدافها الاستراتيجية حتى الآن، ما زاد من الضغوط على القيادة السياسية، التي باتت تواجه اتهامات بالفشل في إدارة الحرب، والتسبب في إطالة أمدها دون نتائج حاسمة.
فشل تشريعي وتأزّم سياسي
في موازاة ذلك، فشلت الحكومة في تمرير مشروع قانون تجنيد الحريديم، الذي أثار غضباً واسعاً بين العلمانيين، بينما اعتبرته الأحزاب الدينية خطاً أحمر، هذا الفشل سلط الضوء على هشاشة التحالف الحكومي، وكشف عن تصدعات عميقة تهدد استقراره.
كما تواجه حكومة نتنياهو موجة انتقادات حادة بسبب محاولاتها تقويض استقلال القضاء، حيث عبّر قضاة متقاعدون وشخصيات قانونية بارزة عن خشيتهم من أن تؤدي التعديلات المقترحة إلى "تآكل سيادة القانون وتحويل الدولة إلى شبه ديكتاتورية"، في هذا السياق، قالت رئيسة المحكمة العليا السابقة، دوريت بينيش: إن "تسييس القضاء قد يقود إسرائيل إلى انقسام لا رجعة فيه، وربما إلى عصيان مدني" (القناة 12، 2025/6/3).
أزمة اقتصادية تلوح في الأفق
تأتي هذه التطورات في ظل تدهور اقتصادي بدأ ينعكس في تراجع تصنيف الكيان الإسرائيلي الائتماني من "مستقر" إلى "سلبي"، حسب وكالة "موديز"، التي أشارت إلى أن استمرار الحرب والانقسامات السياسية يجعل مناخ الاستثمار في البلاد غير آمن.
كما حذرت مؤسسات مالية من نزوح رؤوس أموال ضخمة من قطاع التكنولوجيا، ما قد يؤدي إلى ركود اقتصادي خلال النصف الثاني من 2025.
ضغط دولي وعزلة متزايدة
التدهور الداخلي ترافق مع تراجع في صورة "إسرائيل" على الساحة الدولية، فقد فرضت كل من كندا والمملكة المتحدة عقوبات على عدد من الوزراء الإسرائيليين بسبب تصريحاتهم التحريضية على العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، ورغم أن واشنطن لا تزال تواصل دعمها السياسي والعسكري للكيان، إلا أن الإدارة الأمريكية وجّهت انتقادات صريحة لحكومة نتنياهو، داعية إلى احترام النظام الديمقراطي والتوقف عن تقويض القضاء.
وأكد بيان الخارجية الأمريكية (2025/5/30) أن "التحالف بين البلدين يقوم على القيم الديمقراطية المشتركة، وأي تراجع عن هذه القيم سيؤثر على قوة العلاقة".
مبادرات حوار وطني ومخاوف من مستقبل الكيان
في مواجهة هذا الانهيار المتسارع، طرحت بعض الشخصيات الإسرائيلية المعروفة مبادرات لإنقاذ الموقف، من بينها دعوة الرئيس الإسرائيلي السابق رؤوفين ريفلين إلى تشكيل "لجنة مصالحة وطنية" تشرف على تهدئة الساحة السياسية، ومراجعة التشريعات المثيرة للجدل، وتمهيد الطريق لانتخابات جديدة، هذه الدعوة وجدت صدى واسعاً، وخاصة في أوساط المعارضة، التي ترى أن الخيار الديمقراطي هو المخرج الوحيد من الأزمة.
ويحذر مراقبون من أن استمرار هذه الانقسامات قد يؤدي إلى إعادة تعريف شكل الدولة نفسها، إذ لم تعد الأزمة مجرد خلاف بين حكومة ومعارضة، بل أصبحت أزمة ثقة عميقة بين المواطن والدولة، وبين الجيش والقيادة السياسية، وبين المؤسسات الدينية والعلمانية، وهو ما ينذر بانهيار العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة منذ عام 1948.
هل تواجه "إسرائيل" أزمة وجودية داخلية؟
في ضوء هذه المعطيات، يرى العديد من المحللين أن "إسرائيل" تمر بمرحلة مفصلية قد تحدد مستقبلها كدولة، التوترات الداخلية، المأزق العسكري، والأزمات الاقتصادية والدستورية، كلها عوامل تجتمع لتشكّل أزمة وجود داخلية غير مسبوقة، وإذا لم تتحرك النخبة السياسية باتجاه إصلاح شامل، فقد تجد نفسها أمام اضطرابات اجتماعية وسياسية تهدد بنيتها واستقرارها.