الوقت- في لحظة فاجأت الأسواق المالية العالمية، أعلن "بنك أوف أمريكا" – أحد أكبر المؤسسات المصرفية على مستوى العالم – عن تصدّر الروبل الروسي قائمة العملات الأفضل أداءً لعام 2025، وحسب تقرير البنك، تفوّق الروبل على جميع العملات الكبرى بما فيها الدولار الأمريكي واليورو والين الياباني، محققاً أعلى معدل نمو هذا العام، المفارقة المثيرة أن هذا الإنجاز المالي جاء في سياق حرب مستعرة في أوكرانيا، وعقوبات اقتصادية غربية خانقة، ومواجهة شاملة بين موسكو ودوائر النفوذ الغربي.
فما الذي جعل الروبل يصمد، بل ويتفوق، في لحظة يُفترض أن تكون فيها الاقتصادات المحاصرة على وشك الانهيار؟ وهل نحن أمام درس روسي في "اقتصاد الحروب"، أم إن الصورة أكثر تعقيداً مما تبدو على السطح؟ في هذا المقال، نحاول تفكيك هذه الظاهرة من خلال تحليل الأسباب، واستشراف التداعيات المحتملة داخلياً ودولياً.
الخلفية الاقتصادية والسياسية
منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حزمة عقوبات غير مسبوقة على الاقتصاد الروسي، شملت تجميد أصول، طرد بنوك من نظام "سويفت"، حظر صادرات واستثمارات، وتقييد حركة الأفراد والكيانات، وكان الاعتقاد السائد حينها أن هذه الإجراءات ستقود إلى انهيار الروبل، وتفكك المنظومة الاقتصادية الروسية.
وفي الواقع، عانى الروبل فعلاً في الأشهر الأولى للحرب من تراجع حاد، وتدهورت الثقة في الأسواق الروسية، قبل أن تبدأ موسكو باتباع سلسلة إجراءات استراتيجية لإعادة التوازن.
السياسات النقدية الحاسمة للبنك المركزي الروسي
من أبرز الأسباب التي حددها "بنك أوف أمريكا" لتفسير تفوق الروبل:
1. سياسات البنك المركزي الروسي
اتبع البنك المركزي الروسي نهجاً صارماً في إدارة العملة المحلية، قام برفع أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية، وأقرّ قيوداً صارمة على حركة رأس المال، بما في ذلك منع خروج الأموال من البلاد، وإجبار المصدرين على بيع نسبة كبيرة من عائداتهم الأجنبية بالروبل. هذه الإجراءات ساهمت في:
كبح المضاربات على العملة.
تعزيز الطلب على الروبل محلياً.
تقليص الطلب على العملات الأجنبية.
2. إعادة هيكلة التجارة الخارجية
أعادت موسكو توجيه بوصلتها التجارية بعيداً عن الغرب، وفتحت قنوات موسّعة مع دول مثل الصين والهند وتركيا ودول الخليج، وشكّلت هذه الأسواق البديلة مصدر دعم مهم للاقتصاد الروسي، في وقت كانت أوروبا تضيق الخناق على صادرات الطاقة.
ارتفاع أسعار الطاقة وتصديرها بعملات غير غربية
يشكّل قطاع الطاقة قلب الاقتصاد الروسي، ورغم الحظر الأوروبي، استفادت موسكو من ارتفاع أسعار النفط والغاز عالمياً، ونجحت في تسويق منتجاتها عبر قنوات بديلة.
ارتفعت قيمة الصادرات بالروبل بعد فرض شرط الدفع به لبعض الدول المستوردة، حيث أدّى التبادل التجاري بالروبل أو باليوان الصيني إلى تقليص الاعتماد على الدولار واليورو، وزاد الطلب على الروبل في الأسواق الخارجية.
العوامل النفسية والرمزية في أداء الروبل
1. ثقة المستثمرين الأجانب المفاجئة
حسب شبكةCNBC، فإن جزءاً من صعود الروبل يعود إلى قفزة مفاجئة في ثقة المستثمرين، وخصوصاً في ظل ما يُتداول عن "استقرار نسبي" داخلي في روسيا مقارنة بتوقعات الانهيار.
2. آمال في تسوية سياسية
يرى بعض المراقبين، مثل بريندان ماكينا من "ويلز فارغو"، أن الحديث عن آفاق السلام في الأفق قد شجّع أسواق المال على المجازفة بالتعامل مع الروبل.
نتائج الأداء الاقتصادي الكلي الروسي
على عكس التوقعات الغربية، أظهر الاقتصاد الروسي علامات مرونة عالية:
نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.2% في الربع الأول من 2025.
انخفاض معدلات التضخم إلى أدنى مستوياتها منذ بداية الحرب.
زيادة الاحتياطيات الدولية بنسبة 15% على أساس سنوي.
كلها مؤشرات عززت ثقة الأسواق في متانة الروبل، حتى لو كان هذا الصمود هشّاً في جوهره.
التضييق على الاستيراد وتغيير أنماط الاستهلاك
حسب أندريه ميلاشينكو من "رينيسانس كابيتال"، فإن الاقتصاد الروسي شهد في النصف الثاني من 2024 حالة تكديس ضخمة للسلع المعمّرة كالسيارات والإلكترونيات، هذا التكديس استباقاً لزيادات في الرسوم الجمركية، قلّل لاحقاً من الضغط على سوق العملات الأجنبية، لأن الاستيراد تباطأ نسبياً في بداية 2025.
هل نحن أمام تحول جيوسياسي في النظام النقدي الدولي؟
يشير بعض المحللين إلى أن هذا التقييم الغربي للروبل قد لا يكون بريئاً بالكامل:
قد يكون محاولة لإبقاء قنوات خلفية للحوار مع روسيا مفتوحة، في ظل انسداد المسارات الدبلوماسية.
في المقابل، فإن الاعتراف بقوة الروبل قد يُستخدم كورقة ضغط على الحلفاء الأوروبيين المترددين في مواصلة العقوبات.
وعلى نطاق أوسع، فإن الحديث المتزايد عن "تعددية قطبية في النظام النقدي" يدفع إلى التشكيك في الهيمنة الأمريكية المطلقة، وخاصة في ظل تراجع أداء الدولار نسبياً هذا العام.
التبعات المحتملة داخلياً ودولياً
على المستوى الداخلي:
يعطي هذا الأداء زخماً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعزيز شرعيته السياسية. لكن في المقابل، لا يعكس صعود الروبل تحسناً نوعياً في معيشة المواطن الروسي، الذي يواجه تضييقاً في الحريات، وصعوبات في تأمين بعض السلع والخدمات.
على المستوى الدولي:
يشجّع بعض الأنظمة غير الغربية على تحدي هيمنة الدولار، مثل إيران، فنزويلا، وحتى بعض دول آسيا وإفريقيا.
قد يؤدّي إلى مزيد من الاستقطاب في النظام المالي العالمي، عبر إنشاء منظومات بديلة للتسويات المالية (مثل "مير" الروسي، أو استخدام العملات المحلية).
هل هو "درس روسي" أم استثناء ظرفي؟
إن الأداء اللافت للروبل في 2025 لا يمكن تفسيره بسطحية، فهو نتيجة مزيج معقّد من العوامل الاقتصادية والنقدية والسياسية، وبينما يحق لموسكو أن تفتخر بهذا الإنجاز في وجه العقوبات، يبقى السؤال الأكبر: هل هذا الصعود مستدام؟
إذا استمرت الحرب، وتعمقت العزلة، وتباطأت التجارة، فقد يكون هذا الأداء مجرد فترة مؤقتة ناتجة عن ضوابط اصطناعية وقسرية على السوق، أما إذا نجحت روسيا في تحويل مكاسبها إلى إصلاحات هيكلية، وتنويع مصادر دخلها، فربما نكون أمام درس حقيقي في "اقتصاد المقاومة" في زمن الحروب.
وبين هذا وذاك، يبقى الروبل – على الأقل لعام 2025 – العنوان الأبرز في تحولات المشهد النقدي العالمي، في انتظار ما ستسفر عنه السنوات المقبلة من مفاجآت اقتصادية وجيوسياسية.