الوقت- في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، تكشف تطورات ميدانية خطيرة عن استراتيجية جديدة يتبناها كيان الاحتلال، تتمثل في تسليح جماعات فلسطينية محلية ذات طابع إجرامي، بغرض تقويض نفوذ حركة حماس وزعزعة استقرار المجتمع الغزّي من الداخل، وفي مقدمة هذه الجماعات، تبرز مجموعة تُعرف باسم "أبو شباب"، بقيادة ياسر أبو شباب.
اعترافات رسمية من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكذلك من وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان، كشفت النقاب عن هذا الدعم العسكري، ما يشير إلى تحول خطير في أدوات الحرب الإسرائيلية، من القصف والتدمير المباشر إلى استخدام "أذرع محلية" لتنفيذ مشاريع الاحتلال من الداخل، هذا التكتيك لم يعد مجرد تخمين أو تسريبات إعلامية، بل حقيقة موثقة تعكس مساعي الاحتلال لإشاعة الفوضى، تفكيك البنية المجتمعية، وسرقة المساعدات الإنسانية.
من هي جماعة أبو شباب؟
تُعرف جماعة "أبو شباب" كإحدى التشكيلات المسلحة الناشئة في جنوب قطاع غزة، ويقودها ياسر أبو شباب، وهو شخص سبق له أن سُجن لدى حركة حماس بتهم تتعلق بالإتجار بالمخدرات وارتباطه بأنشطة إجرامية، ينتمي أبو شباب إلى قبيلة "الترابين"، وهي إحدى القبائل البدوية المنتشرة على الحدود بين غزة وشبه جزيرة سيناء، وقد ذُكر أن بعض أفرادها تورطوا سابقاً في عمليات تهريب وسرقة، وعلى الرغم من أن هذه الجماعة تُطلق على نفسها اسم "القوات الشعبية"، وتحاول تبرئة نفسها من الاتهامات بالعمالة، إلا أن التقارير الاستخباراتية والإعلامية، بما في ذلك اعترافات مسؤولين إسرائيليين، تؤكد أنها تعمل بتنسيق مباشر مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، وتتلقى دعماً لوجستياً وتسليحياً.
هذه الجماعة لا تنشط فقط ضد حركة حماس، بل وُثّقت مشاركتها في سرقة شاحنات مساعدات إنسانية مقدّمة لسكان غزة المحاصرين، وخصوصاً في منطقة رفح، وقد وصف مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي هذه الجماعة بأنها "عصابة إجرامية مسلحة"، فيما اعتبرت حماس أفرادها خونة ومتعاونين مع الاحتلال، الانتماء القبلي والجغرافيا الحدودية منحا المجموعة غطاءً سهّل تحركاتها، في وقت تستثمر فيه "إسرائيل" هذا الامتداد القبلي والفراغ الأمني لإيجاد موطئ قدم بديل لها داخل القطاع دون تدخل مباشر.
"إسرائيل" وتكتيك "العصابات المحلية"
منذ بداية عدوانها الأخير على غزة في أكتوبر 2023، لجأت "إسرائيل" إلى استراتيجية مختلفة عما اعتادته في السنوات الماضية، حيث لم تعد تكتفي بالضربات الجوية والبرية، بل تحوّلت إلى توظيف أدوات داخلية في القطاع لتنفيذ خططها، من بين هذه الأدوات، برزت العصابات المحلية المسلحة، التي يتم تسليحها ودعمها سراً، وأحياناً علناً، كما اعترف بذلك نتنياهو وليبرمان.
الهدف المعلن من هذا التكتيك هو "محاربة حماس من الداخل"، ولكن الحقيقة تكشف مشروعًا أكبر بكثير تفتيت البنية الاجتماعية والنسيج المجتمعي الفلسطيني، وإيجاد بديل فوضوي مسلح يعمّق الفوضى ويُضعف المقاومة.
تسليح هذه الجماعات يتم من خلال تزويدها بأسلحة، مثل الكلاشينكوف والمسدسات، ما يُشير إلى أن "إسرائيل" تسعى إلى تقليل تكلفة الحرب على جنودها عبر تفويض الصراع إلى قوى محلية تدين لها بالولاء. هذه المقاربة تُعيد إلى الأذهان سياسات "فرق تسد" الاستعمارية، حيث يتم خلق نزاعات داخلية تُلهي المجتمع عن مقاومة الاحتلال، الأخطر من ذلك، أن هذا التوجه يعكس عجزاً استراتيجياً إسرائيلياً، بعدما فشلت حملاتها العسكرية في إسقاط حماس أو تقليص قوتها بشكل حقيقي.
تداعيات هذا المشروع على المجتمع الغزّي
النتائج المترتبة على هذا المشروع الإسرائيلي تتجاوز البعد الأمني لتصل إلى مستويات كارثية على المجتمع المدني في غزة، فتح الباب أمام جماعات مسلحة خارجة عن القانون كـ"أبو شباب" أدى إلى تصاعد حاد في عمليات السلب والنهب، وارتفاع حالات الفوضى والانفلات الأمني، وخصوصاً في المناطق الحدودية والجنوبية. تقارير إعلامية وميدانية توثّق نهب قوافل المساعدات الإنسانية، وسط صمت قوات الاحتلال، بل في بعض الأحيان بتنسيق مباشر معها، وفقاً لما صرّحت به حركة حماس.
من الناحية الإنسانية، هذا المخطط أدى إلى حرمان آلاف العائلات من احتياجاتهم الأساسية، وتفاقم الأزمة الإنسانية التي أصلاً كانت في مستوياتها القصوى، لم تعد المشكلة محصورة في الحصار أو القصف، بل تحوّلت إلى ساحة صراع داخلي، يُدار بأدوات الاحتلال وأموال أجهزة استخباراته، كل ذلك يُسهم في تفكيك البنية المجتمعية، وزرع الشك بين فئات الشعب الواحد، وتحويل النضال الفلسطيني من مواجهة احتلال خارجي إلى صراع داخلي مدمر.
أما على المستوى السياسي، فإن "إسرائيل" تهدف من خلال هذه الجماعات إلى خلق "قيادة بديلة" أو "واجهة أهلية" يتم تقديمها لاحقاً كبديل لحماس في إدارة الشأن العام في غزة، ضمن خطة أوسع لتفريغ المقاومة من مضمونها وتحويل غزة إلى كانتون خاضع للسيطرة غير المباشرة عبر عملاء محليين.
الموقف الشعبي والرد المقاوم
في مواجهة هذا المشروع التخريبي الذي تتزعمه "إسرائيل" عبر أدوات محلية، لم يكن الشارع الغزّي ساكنًا أو متفرجًا، بل برزت مؤشرات واضحة على رفض شعبي واسع لمحاولات فرض هذه الجماعات كواقع جديد في القطاع.
بيانات وتصريحات من القوى الوطنية والإسلامية، وعلى رأسها حركة حماس، أكدت أن هناك تحركًا جادًا لملاحقة هذه العصابات، والكشف عن المتورطين في التنسيق مع الاحتلال، بل إن المقاومة الفلسطينية، حسب ما أفادت به مصادر ميدانية، قامت بتصفية عدد من عناصر جماعة "أبو شباب" خلال اشتباكات مباشرة، وهو ما يؤكد أن المشروع الإسرائيلي يواجه مقاومة فعلية على الأرض.
في الوقت نفسه، دعت مؤسسات المجتمع المدني واللجان الشعبية سكان القطاع إلى عدم الانخداع بالشعارات الكاذبة التي ترفعها هذه العصابات، واعتبار أي تعاون معها خيانة وطنية صريحة، فالحفاظ على الجبهة الداخلية بات أولوية استراتيجية لا تقل أهمية عن مقاومة العدوان الخارجي، فالعدو اليوم لا يطل فقط من خلف الدبابات والطائرات، بل بات يظهر أيضًا في صورة "ابن الحيّ" المسلح والمدعوم من أجهزة الاستخبارات الصهيونية، هذا الحذر الشعبي واليقظة الجماعية يعكسان وعيًا فلسطينيًا متقدمًا بخطورة المرحلة، ويؤسسان لمرحلة جديدة من المواجهة مواجهة الارتزاق الداخلي بقدر ما هي مقاومة للاحتلال الخارجي.
ختاماً، إن ما يجري في غزة من تسليح جماعات إجرامية محلية على يد الاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد تطور أمني عابر، بل هو تحوّل استراتيجي خطير يهدف إلى هدم البنية المجتمعية الفلسطينية من الداخل.
جماعة "أبو شباب" ليست سوى رأس جبل الجليد لمشروع أعمق وأخطر، يسعى إلى استبدال الاحتلال المباشر باحتلال بالوكالة، تستخدم فيه أدوات محلية لتحقيق أهداف استعمارية، لكن ما تراه "إسرائيل" حلًا عسكريًا أو سياسيًا، هو في الحقيقة وصفة لفوضى شاملة قد تنقلب عليها في أي لحظة .
في مواجهة هذا التحدي، تظهر أهمية وحدة الصف الفلسطيني، وتكامل أدوار المقاومة والمجتمع المدني لحماية غزة من التآكل الداخلي، فالصمود لا يكون فقط في وجه القصف، بل أيضًا في وجه الطعنات التي تأتي من الداخل، ومع كل فضيحة تخرج إلى العلن، يتأكد للعالم أن العدو لا يعرف حدودًا في عدوانه، ولا يتورع عن استخدام أقذر الوسائل لفرض أجندته، لكن غزة، بتاريخها ووعيها، قادرة على إفشال هذا المخطط كما أفشلت ما قبله.