الوقت - أحدث إفصاح الأجهزة الاستخبارية الإيرانية رسمياً عن استحواذها على وثائق بالغة السرية للكيان الصهيوني، زلزالاً عنيفاً في البنية الاستخبارية لتل أبيب، وأثار ردود فعل مشوبة بالذهول في المحافل الأمنية والإعلامية للكيان المتهاوي.
لم تتكشف خبايا القصة بعد في صورتها الجلية، واقتصر الأمر على تسريب نبأ مقتضب للمنابر الإعلامية، فقد أعلن التلفزيون الإيراني في يوم السبت الماضي أن الجهاز الاستخباري الإيراني استولى على سيل جارف من المعلومات والوثائق الاستراتيجية شديدة الحساسية للكيان الصهيوني، بما فيها آلاف الوثائق المتصلة بالمخططات والمنشآت النووية للكيان.
وأفادت مصادر إيرانية مطلعة بأن فحص هذا الكنز الوثائقي ومطالعة الصور والمشاهد المرئية المقترنة به، يستدعي أمداً طويلاً نظراً لوفرتها الطاغية.
يأتي الكشف عن ملامح هذه العملية الإيرانية الظافرة في عمق الأراضي المحتلة، في أعقاب مزاعم جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) وشرطة الكيان الصهيوني قبل أسبوعين في بيان لهما عن اعتقال “روي مزراحي” و"ألموغ أتياس"، وكلاهما في الرابعة والعشرين من العمر من قاطني “نشر” شمال حيفا، بتهمة التواطؤ مع إيران.
وُجهت إلى هذين الشخصين تهمة تثبيت كاميرات في المستوطنة التي يقطنها وزير الحرب الصهيوني يسرائيل كاتس، وزعم المدعي العام في هذه القضية أن العناصر الإيرانية كانت تجزل العطاء للمتهمين عبر العملات المشفرة، وأنهما استخدما هذه الأموال لاقتناء معدات كالهواتف والكاميرات وشرائح الاتصال، واستعملاها وفقاً لتوجيهات العناصر الإيرانية باستخدام التشفير وتطبيقات التحكم عن بعد.
صدى العملية الإيرانية في منابر الإعلام العبرية
طغى هذا الحدث على المشهد الإعلامي العبري بأسره، فقد نشرت صحيفة “معاريف” تقريراً أشارت فيه إلى أن إيران استلبت وثائق نووية سرية إسرائيلية، ونوّهت بالجزع العميق الذي يعتري تل أبيب إزاء تسرب هذه المعلومات الخطيرة.
كما أفادت القناة الثانية عشرة التلفزيونية الإسرائيلية بأن إيران أحرزت نجاحاً باهراً في الاستيلاء على آلاف الوثائق الأمنية والسرية، واصفةً هذا الإنجاز بأنه “ضربة فادحة” للكيان.
ونشر موقع “واللا نيوز” صورةً لمفاعل ديمونا، وأوضح أن الوثائق المستولى عليها تحتوي على معلومات فائقة الحساسية عن المشاريع النووية الإسرائيلية، ويشي اتساع نطاق الوثائق وجودتها النوعية باختراق عميق لـ "إسرائيل"، ومن المتوقع أن يستغرق فحصها زمناً مديداً، وحسب هذه الوسيلة الإعلامية العبرية، فإن أحد دوافع تهديد "إسرائيل" وإعلانها الاستعداد لشنّ هجوم على إيران، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه المسألة المقلقة.
وأكدت صحيفة “إسرائيل هيوم” أن الوثائق المستولى عليها، تشمل مستندات بالغة الخطورة من البرنامج النووي الإسرائيلي المحاط بأشدّ طبقات السرية.
ويذهب المحللون الصهاينة إلى أن هذه العملية جاءت رداً مزلزلاً على استيلاء الموساد على الأرشيف النووي الإيراني عام 2018، وأفادت بعض المصادر، بما فيها قناة الميادين، بأن لهذه العملية تداعيات جسيمة قد تفضي إلى الإطاحة برئيس الموساد من منصبه.
قدرة إيران الاستخبارية الفائقة في اختراق الحصون الأمنية الإسرائيلية
لم تكن هذه العملية الاستخبارية الإيرانية مجرد انتصار تكتيكي عابر، بل هي حلقة متألقة في سلسلة استراتيجية متكاملة جرى تنفيذها على مدار السنوات الأخيرة بدأب وإتقان.
استناداً إلى الوثائق المتاحة، برعت طهران في السابق أيضاً في اختراق المنظومات الاستخبارية لتل أبيب بطرائق شتى، فعلى سبيل المثال، تمكنت مجموعة “الظل الأسود” للقرصنة في نوفمبر 2021، من الاستحواذ على بيانات آلاف المواطنين الإسرائيليين من خوادم إحدى شركات الاستضافة الإلكترونية.
وفي يناير 2024، تناقلت وسائل الإعلام أنباء اختراق وسلب معلومات 49 شركة صهيونية على يد المجموعة الإيرانية “سايبر طوفان”، كما أقرت صحيفة “هآرتس” في مارس 2025 بأن قراصنة إيرانيين، نجحوا في الولوج إلى عشرات آلاف الوثائق التابعة للشرطة ووزارة الأمن الداخلي والشركات الأمنية الإسرائيلية.
بيد أن إيران تجاوزت الآن مرحلة الاختراق التقني المحض، إلى آفاق أرحب من تصميم وتنفيذ عمليات استخبارية مركبة، تمزج بين المصادر البشرية والقدرات السيبرانية في نسيج محكم، ففي نوفمبر المنصرم، أماطت وسائل الإعلام العبرية اللثام عن قيام بعض المواطنين الإسرائيليين بتسريب معلومات حساسة إلى داخل إيران.
وکتبت صحيفة معاريف آنذاك تحت عنوان “جواسيس في خدمة إيران”: “من بين أنشطة المخترقين جمع معلومات عن قواعد ومنشآت عسكرية وإرسالها، مقابل مئات آلاف الشواكل التي أغدقت عليهم”.
كما ادعت صحيفة “جيروزاليم بوست” في ذلك الحين أن “سبعة إسرائيليين ألقي القبض عليهم بتهمة التجسس لمصلحة إيران، وتقديم معلومات عن قواعد الجيش، أنجز هؤلاء السبعة نحو 600 مهمة لمصلحة إيران، منها استقصاء معلومات في مواقع عسكرية وبنى تحتية حساسة وتعيين أهداف بشرية محتملة لإيران”.
بهذا النهج المتقن، استطاعت إيران، من خلال المزج البارع بين العمليات السيبرانية والمصادر البشرية، ترسيخ مستوى غير مسبوق من القوة الاستخبارية ومجابهة الجهاز الأمني للكيان الصهيوني بتحديات تفوق قدراته على المواجهة.
هذا الصنف من المعلومات لا يتاح إلا في أعلى مستويات التصنيف السري، والظفر به يستلزم اختراقاً بشرياً أو سيبرانياً عميق الغور في الطبقات الاستراتيجية الأمنية، وبالتالي، تکشف عملية إيران مستوى رفيعاً من النضج الاستخباراتي والمقدرة الفائقة على تصميم وتنفيذ أعقد مشاريع الاختراق وأكثرها دقةً وحساسيةً.
في الواقع، بعثت إيران بهذا الإنجاز الاستثنائي برسالة استراتيجية مدوية إلى خصومها، مفادها أن عصر التفوق الاستخباراتي لتل أبيب قد أفل نجمه، وأن معادلات المنطقة تشهد إعادة صياغة جذرية، والآن، بات لزاماً على الكيان المحتل أن يضع في حسبانه، عند الإقدام على أي عمل هجومي أو حتى دفاعي، احتمال أن إيران لن تكون على دراية تامة به فحسب، بل قد تتصدى له بأساليب تتّسم بالدقة المتناهية والذكاء الاستراتيجي.
من المنظور الاستراتيجي الشامل، لم تستحوذ إيران على كنز من المعلومات الحساسة فحسب، بل انتزعت أيضاً زمام المبادرة النفسية والإعلامية من يد الخصم، فتل أبيب التي دأبت على محاولة إبراز قوتها الاستخبارية في إيران والمنطقة بصورة متضخمة من خلال عمليات كاغتيال الشهيد إسماعيل هنية وعملية أجهزة النداء(البيجر) في لبنان، برهنت بهذه الهزيمة الفادحة أن تلك الادعاءات لم تكن سوى تهويل إعلامي فارغ، وأنه لو كان ثمة اختراق استخباراتي واسع النطاق كما تزعم، لكانت عمليات الأجهزة الاستخبارية الإيرانية قد انكشفت وأُحبطت.
وعليه، يواجه الكيان الآن أزمة ثقة داخلية متفاقمة تنخر في بنيانه. لقد قلب هذا الاختراق النوعي موازين القوى الاستخبارية في المنطقة لمصلحة طهران، وعزّز منظومة الردع الاستراتيجي الإيراني تعزيزاً بالغ الأثر.
انهيار المنظومة الأمنية للكيان الصهيوني
لطالما تغنى الصهاينة بمنظومتهم الأمنية وتباهوا بها، زاعمين أنها تمثّل صرحاً استخبارياً منيعاً يستعصي على الاختراق، وأنها تتربع على عرش الهياكل الاستخباراتية في العالم، بيد أن الاختراق الذي شهدناه مؤخراً قد مزّق حجب الوهم، وكشف النقاب عن حقيقة ساطعة مفادها بأن تلك المزاعم لم تكن سوى أضغاث أحلام وسراب خادع، وأن الواقع الميداني يروي قصةً مغايرةً تماماً.
فقد برهن هذا الاختراق الإيراني البارع أن البنيان الأمني لهذا الكيان ليس قابلاً للاختراق فحسب، بل إنه قد افتقر إلى القدرة على استشراف المخاطر الاستخباراتية المحدقة به، والتصدي لها بحزم وكفاءة.
وقد ازداد هذا الوهن الأمني تفاقماً بفعل الأزمة الاقتصادية المستشرية التي أفرزتها حرب غزة، والتي ألقت بظلالها الثقيلة على كاهل هذا الكيان ومستوطنيه، فالتقارير الرسمية الصادرة عن البنك المركزي الإسرائيلي، تکشف حقيقةً مذهلةً مفادها بأن فاتورة حرب غزة قد ناهزت سبعة وستين مليار دولار، ما أثقل كاهل اقتصاد هذا الكيان المتهاوي.
لقد أفضى انحسار النمو الاقتصادي، وتفشي شبح البطالة، وتآكل الأسس المالية، والضغط الهائل على الميزانية العسكرية والأمنية، إلى تدني مستويات الرضا وخفوت جذوة الحماس في نفوس العناصر الأمنية والعسكرية، ما هيأ المناخ المثالي للاختراق الخارجي على نحو غير مسبوق.
وقد أماط اللثام استطلاع حديث أجراه “معهد الديمقراطية الإسرائيلي” عن حقائق صادمة، إذ كشف أن خمس الإسرائيليين الذين هجروا من محيط غزة أو لبنان، قد فقدوا سبل عيشهم، وأن تسعة وثلاثين بالمئة منهم لا يزالون مشردين عن ديارهم، فيما ذاق أربعة وثلاثون بالمئة من الأسر مرارة انخفاض الدخل، وتتصاعد هذه النسبة في شمال الأراضي المحتلة لتبلغ أربعة وأربعين بالمئة.
وفي خضم هذه الدوامة الاقتصادية والاجتماعية المضطربة، باتت الأجهزة الأمنية في تل أبيب تواجه معضلات جسيمة تهدّد كيانها، فالكوادر الرازحة تحت نير الضغوط الاقتصادية والنفسية والاجتماعية، أضحت فريسةً سهلةً للإغراءات المالية أو الابتزاز الاستخباراتي، إذ قد يجنح بعضهم إلى مدّ يد العون للجهات الخارجية أو الانخراط في تعاون سري صيانةً لمعيشتهم المتهاوية، كما أن تقلص الإجراءات الوقائية الناجم عن الضغوط المتواصلة وإنهاك العناصر، قد فتح ثغرات واسعة أمام اختراقات خارجية كانت تُعدّ في الماضي ضرباً من المستحيل.
إن تضافر الحرب المستعرة، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والقصور الاستراتيجي في إدارة الموارد الاستخباراتية، قد أفضى إلى تصدع البنية الأمنية للكيان الصهيوني من جذورها، وقد استثمرت إيران هذا المشهد بحنكة ودهاء، لتبرهن أن ميدان المواجهة الحقيقي يتجاوز السواتر الترابية والاشتباكات العسكرية المباشرة، فالنفاذ إلى المستندات السرية لتل أبيب ليس مجرد رمز لانتصار إيران، بل هو جرس إنذار مدوٍ لكيانٍ طالما تبجّح بحصانته، وأمسى اليوم مكشوفاً أمام خصومه كانكشاف الشمس في رابعة النهار.
ومن هذا المنطلق، فإن سلطات تل أبيب الذين يملكون باعاً طويلاً في طمس الحقائق والحيلولة دون تسرب إخفاقاتهم العسكرية والاستخباراتية إلى الفضاء الإعلامي، قد ينكرون هذه المرة أيضاً نبأ وصول إيران إلى وثائقهم السرية، أو يلوذون بصمت مريب في محاولة يائسة للتخفيف من وقعه الإعلامي المدوي، غير أن حجم المعلومات المستقاة وخطورتها، قد بلغا من الضخامة حداً يجعل آثار هذه الضربة الاستخبارية تتجلى عما قريب في أعلى دوائر الأمن الصهيوني، ولذا، فإن احتمال إقصاء أو تنحي كبار أركان الموساد، ليس إلا غيضاً من فيض ردود الفعل الداخلية على هذه الفضيحة المدوية، التي تعري مجدداً قصور المنظومة الأمنية لهذا الكيان المتهاوي.
وصفوة القول، ينبغي اعتبار اختراق إيران للوثائق فائقة السرية للكيان الصهيوني منعطفاً تاريخياً في مسار الصراع الاستخباراتي بالمنطقة، فهذا الإنجاز الفذّ لا يجسّد فقط النضج الاستخباراتي الإيراني المتنامي، بل يشهد أيضاً على مكامن الضعف المستفحلة في النسيج الأمني والاجتماعي للكيان الصهيوني، والرسالة الاستراتيجية لهذا الظفر الاستخباراتي جلية المعالم: إن عصر الهيمنة المعلوماتية لتل أبيب قد أفل نجمه، وأن طهران قد تبوأت مكانةً محوريًة في المشهد الاستخباراتي الإقليمي، تصول فيه وتجول بلا منازع.