الوقت- في مشهدٍ تراجيدي يعكس وحشية الاحتلال الإسرائيلي، شهدت مدينة رفح في جنوب قطاع غزة واحدة من أكثر الجرائم دموية منذ بداية العدوان، فيما بات يُعرف بـ"مجزرة ويتكوف"، لم تكن هذه الجريمة فقط حلقة جديدة في سلسلة المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، بل كشفت كذلك عن الوجه الحقيقي للدعاية الإسرائيلية الكاذبة، حيث لجأ جيش الاحتلال إلى فبركة مقاطع مصورة في محاولة لتبرئة نفسه وتحميل المسؤولية لأطراف فلسطينية، في سلوك دعائي يعبّر عن مأزق أخلاقي وسياسي متفاقم لدى دولة الاحتلال.
المجازر في محيط المساعدات: الموت على أبواب الخبز
شهدت رفح مجزرة مروّعة راح ضحيتها أكثر من 32 شهيدًا ومئات الجرحى، معظمهم من المدنيين، أثناء تجمعهم قرب نقطة توزيع مساعدات إنسانية تديرها شركة أمريكية، الواقعة لم تكن الأولى من نوعها، بل تتكرر في مناطق مختلفة من القطاع، كخان يونس ونيتساريم، حيث باتت "مراكز توزيع المساعدات" مصائد موت محكمة، تستدرج فيها الجموع الجائعة لتُقصف بدم بارد، تحت ذرائع أمنية واهية.
الفبركة الإعلامية: محاولة للهروب من الإدانة
لم تكتفِ "إسرائيل" بارتكاب الجريمة، بل سعت لتضليل الرأي العام عبر بث مقطع فيديو ادعت فيه أن المجزرة وقعت نتيجة اشتباك بين مسلحين فلسطينيين قرب مركز للمساعدات، غير أن تحقيقات ميدانية دقيقة أجرتها منظمات حقوقية كشفت أن الفيديو مفبرك، وتم تصويره في شرق خانيونس وليس في رفح كما زعمت الرواية الإسرائيلية.
وأكد رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الفيديو يخص عملية سرقة قامت بها عصابة مدعومة من الاحتلال استولت على شاحنات دقيق، بينما كانت طائرات إسرائيلية مسيّرة تراقب المشهد دون أن تتدخل، في انتهاك صارخ لكل قواعد العمل الإنساني.
الاحتلال و"عصابات الإغاثة": توزيع المساعدات كسلاح حرب
أحد أخطر ما كشفته هذه الحادثة، هو تحول عملية توزيع المساعدات الإنسانية إلى أداة ابتزاز وقتل جماعي. العصابات التي تعمل تحت حماية إسرائيلية كانت تطلق النار على المدنيين الذين حاولوا استعادة بعض المساعدات دون دفع إتاوات، حيث قُتل من حاول أن يأخذ كيس دقيق دون دفع 100 شيكل، في جريمة مزدوجة: سرقة وابتزاز وقتل.
هذه الممارسات ترتكب في ظل نظام مراقبة مشدد عبر طائرات مسيّرة، وبتنسيق مع شركة أمريكية مشبوهة مكلفة بتوزيع المساعدات، يشرف عليها ضباط أمن واستخبارات سابقون من الجيش الأمريكي، حسب ما أكده ماجد أبو سلامة، رئيس "تحالف محامين من أجل فلسطين" في سويسرا.
الهندسة الممنهجة للإبادة: واشنطن شريك مباشر
الجرائم التي تُرتكب في غزة ليست مجرد "تجاوزات" أو "أخطاء عسكرية"، بل هي نتيجة مباشرة لما سماه الكاتب وسام عفيفة "هندسة الإبادة بغطاء إنساني"، حيث توظف واشنطن الأدوات الإنسانية كوسيلة لضبط الحصار، وإخضاع السكان، وتنفيذ أهداف استراتيجية لمصلحة "إسرائيل".
المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، الذي حملت المجزرة اسمه في دلالة رمزية، لم يأتِ لتقديم حل أو دعم إنساني، بل لتنفيذ سياسة أميركية تخدم مشروع الإبادة، عبر ما تسمى "الممرات الآمنة" التي تحولت فعليًا إلى ساحات قتل جماعي، بتواطؤ دولي وصمت فاضح من الأمم المتحدة والدول الغربية.
الرأي المحلي والدولي: من الشهادات إلى المطالبات
في الداخل الفلسطيني، توالت الإدانات من جميع الفصائل والمؤسسات، واعتبرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المجزرة "جريمة إبادة جماعية"، مطالبة بتحرك عربي ودولي فوري لكسر الحصار ومحاسبة الاحتلال.
على الصعيد الدولي، أكدت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي سيندي ماكين أن رواية البرنامج حول الجريمة تتطابق مع الشهادات المحلية، نافية المزاعم الإسرائيلية، ومشددة على ضرورة وقف إطلاق النار وتأمين وصول المساعدات.
أما المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فاعتبر أن الفيديو الإسرائيلي مفبرك وموجّه لتبرئة الاحتلال من جريمة مكتملة الأركان بموجب القانون الدولي، ولا سيما المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تنص على أن استهداف جماعة قومية أو دينية بالإبادة والتجويع والقتل المنهجي يرقى إلى جريمة دولية لا تسقط بالتقادم.
مجازر نقاط الموت: تكرار ممنهج
لا يمكن فهم مجزرة "ويتكوف" إلا ضمن سياق متصل ومتكرر لما بات يُعرف بـ"مجازر نقاط الموت"، حيث تتحول أماكن توزيع المساعدات في غزة إلى مصائد جماعية يُساق إليها المدنيون الجوعى ليُقتلوا بدم بارد. هذا النمط الإجرامي لم يظهر فجأة، بل هو تكرار صارخ لمجازر سابقة نفذها الاحتلال في رفح وخان يونس ومحيط نيتساريم، حيث وثقت منظمات حقوقية محلية ودولية استهداف المدنيين أثناء اقترابهم من شاحنات المساعدات، ما يجعل مجزرة ويتكوف أكثر بشاعة هو تكرار نفس السيناريو القاتل: مركز توزيع تديره جهة مرتبطة بواشنطن، طائرات مسيرة تراقب المشهد، إطلاق نار على الحشود، ثم مقاطع مفبركة لتبرئة الاحتلال. إن تكرار هذه المجازر بنفس الأدوات والأساليب وبلا محاسبة يثبت بما لا يدع مجالًا للشك وجود تواطؤ دولي واضح، وخصوصًا من الجانب الأمريكي، الذي لا يكتفي بدعم الاحتلال عسكريًا وسياسيًا، بل يشارك عبر شركات ومؤسسات مشبوهة في فرض واقع "الهندسة الإنسانية القاتلة".
هذا الصمت الدولي، وعدم تحرك المنظومة الأممية رغم الأدلة المتراكمة، هو الذي شجّع الاحتلال على المضي في جرائمه، وكرّس سياسة القتل الجماعي تحت غطاء إنساني زائف.
مؤسسات الإغاثة المشبوهة: من العمل الإنساني إلى أدوات التجسس
تعمل في غزة مؤسسة تُدعى "غزة للإغاثة الإنسانية" (GHF)، مدعومة مباشرة من الجيش الإسرائيلي، وتفتقر لأدنى معايير العمل الإنساني. هذه المؤسسة ليست سوى واجهة لمشروع تجسسي وأمني، حيث تجمع البيانات عن السكان وتستخدم المساعدات كسلاح سياسي وأمني، وتُدير مراكز توزيع باتت فعليًا "غيتوهات" لعزل السكان وتجويعهم، قبل تصفيتهم إن اقتربوا من الغذاء دون إذن.
ختام القول، الإعلام الإسرائيلي بين التضليل والفضيحة
فضيحة الفيديو المفبرك ليست مجرد سقطة إعلامية، بل تعبير عن استراتيجية متكاملة تُوظف الإعلام كسلاح في معركة السيطرة على السردية، الاحتلال يعلم أن العالم يتابع، لكنه يراهن على التكرار والضبابية والارتباك، وعلى دعم غير مشروط من حلفائه في واشنطن ولندن وباريس.
لكن جرائم الخبز، كما تسميها الصحافة الفلسطينية، ومقاطع الفيديو التي تصور قتل المدنيين من الجو والبر أمام أكياس الطحين، لم تترك مجالًا كبيرًا للتأويل. المجازر مستمرة، والفبركة تنكشف، وما زال الأطفال في غزة يقتلون مرتين: مرة بالجوع، ومرة بالرصاص.
إن الصمت الدولي، والتواطؤ الإعلامي الغربي، لم يعد مجرد انحياز سياسي، بل أصبح شراكة في الجريمة. ما يجري في غزة ليس نزاعًا مسلحًا، بل حرب إبادة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والإعلام الإسرائيلي ليس سوى أداة أخرى في آلة القتل هذه، تغطي المجازر بالشاشات كما تغطي الجثث بالتراب.