الوقت - منذ بدء الغزو الشامل للكيان الصهيوني لغزة عام ٢٠٢٣، اندلعت انتفاضة عالمية ضد جرائمه، ومن بين هذه الانتفاضة، كانت المشاركة في حملة المقاطعة الاقتصادية لـ"إسرائيل"، إحدى وسائل النضال المدني والعمل الجماعي لشعوب العالم، والتي تُقاطع خلالها البضائع المنتجة في الأراضي المحتلة ومنتجات الشركات التي تدعم الكيان ماليًا.
في أحدث إجراءات المقاطعة، تعتزم الحكومة الأيرلندية حظر استيراد المنتجات من المستوطنات المحتلة ردًا على استمرار أنشطة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية.
ذكرت وكالة فرانس برس للأنباء، نقلاً عن متحدث باسم وزارة الخارجية الأيرلندية، أن "الحكومة وافقت على إقرار قانون يحظر الاتجار بالسلع مع المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة".
وسبق أن اتخذت بعض الدول الأوروبية الأخرى هذا الإجراء رداً على استمرار الكيان الصهيوني في بناء المستوطنات غير الشرعية في ظل حكومة نتنياهو اليمينية، وهو إجراء قد يؤثر سلباً على اقتصاد الكيان المنهك ويزيد من أعباء مشاكله.
يُقدر الناتج الاقتصادي للمستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية بنحو 41 مليار دولار سنوياً، ما يُسهم بشكل كبير في اقتصاد الكيان، ولذلك، دفع استمرار حملات العقوبات الحكومة الصهيونية إلى إيجاد سبل للالتفاف على قوانين العقوبات، بما في ذلك تسويق منتجات المستوطنين بأسماء وأساليب مختلفة، أو زيادة توفير التسهيلات الاقتصادية والتجارية للمنشآت الصناعية والزراعية الموجودة في المستوطنات.
من القضايا الأقل تداولاً أن آثار المقاطعة لا تقتصر على الخسائر الاقتصادية للكيان، بل قد تعزز الإنتاج المحلي الفلسطيني واستقلاله الاقتصادي عن الكيان.
ينظر الفلسطينيون بشكل متزايد إلى اتفاقية باريس (البروتوكول الاقتصادي لاتفاقيات أوسلو، الموقعة بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" في باريس في الـ 29 من أبريل/نيسان 1994)، والتي تسمح للكيان الصهيوني بالهيمنة اقتصادياً على الحياة الفلسطينية، على أنها فخٌّ دمر الاقتصاد الفلسطيني وأعاق تقدمه.
مقاطعة المحتل: نهج تاريخي ومستمر
مقاطعة الكيان الصهيوني ليست فكرة جديدة، بل هي موجودة منذ بداية الحركة الصهيونية، حتى قبل انتفاضة عام 1936، كانت هناك حملات لمقاطعة البضائع الصهيونية، في عام 1922، نُظمت حملة لمقاطعة الشركات اليهودية في فلسطين، وبلغت هذه الحركة ذروتها في انتفاضة 1936-1939.
خلال الانتفاضة الأولى، نجحت القيادة الوطنية الموحدة في تعزيز اقتصاد المقاومة من خلال مقاطعة البضائع الإسرائيلية، وتقليص عدد العمال الفلسطينيين العاملين في الأراضي المحتلة، وتعزيز الإنتاج المحلي في الضفة الغربية، كما أُفرغت الأسواق الفلسطينية من المنتجات الإسرائيلية، وازداد الإنتاج الزراعي، وتشكلت تعاونيات ومبادرات شعبية في المجال الزراعي، ووصل عدد الأشجار المزروعة خلال سنوات الانتفاضة إلى نصف مليون شجرة.
استمر هذا التوجه في الانتفاضة الثانية، حيث انخفض عدد العمال الفلسطينيين العاملين في الأراضي المحتلة من 145 ألفًا عام 2000 إلى 66 ألفًا، بعد الانتفاضة الثانية، ومع تصاعد الانتهاكات الصهيونية للقانون الدولي، تشكلت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) العالمية للضغط على "إسرائيل"، على غرار تجربة جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري.
العلاقات التجارية الفلسطينية وتبعيتها للاقتصاد الإسرائيلي
لطالما أصر كيان الاحتلال الإسرائيلي على السيطرة على جميع مقومات الاقتصاد الفلسطيني وخنقها، وقد أرسى بروتوكول باريس الاقتصادي آلياتٍ لضبط المعابر والحدود، وقيّد كمية ونوعية السلع المستوردة، كما لعب دورًا في ضبط الكيان الضريبي، تاركًا للسلطة الفلسطينية صلاحياتٍ محدودة، كفرض ضريبة الدخل وضريبة الأملاك.
وقد أدى ذلك إلى تفاقم الفقر الهيكلي، وتحويل الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد خدمات هشّ وغير قادر على استيعاب العمالة، ونتيجةً لذلك، ازداد الاعتماد على سوق العمل الإسرائيلي، لدرجة أنه قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان حوالي 20% من القوى العاملة الفلسطينية تعمل في الأراضي المحتلة والمستوطنات، وهذا يعني أن دخل 20% من الأسر الفلسطينية كان مرتبطًا بابتزاز ومساومات كيان الاحتلال.
رغم جهود السلطة الفلسطينية المتكررة لبناء دولة واقتصاد وطني، وإنفاقها حوالي 44 مليار دولار كمساعدات دولية على بناء الدولة والتخطيط التنموي الشامل، إلا أن الاقتصاد الفلسطيني أصبح يعتمد بشكل متزايد على الاقتصاد الإسرائيلي، واشتدت القيود التي تُضعفه، هذا جعل الاقتصاد الفلسطيني أكثر عرضة للأزمات، ما نشهده اليوم - ركود اقتصادي، ومنع العمال الفلسطينيين من العمل في الأراضي المحتلة، وقطع أموال الموازنة العامة، واستيلاء كيان الاحتلال على أكثر من نصف أموال المستوطنات، ودفع جزء فقط من رواتب موظفي القطاع العام - كلها تنبع من هذا الاعتماد.
ومن أهم آليات الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على التجارة الخارجية الفلسطينية "الاتحاد الجمركي".
وبناءً على ذلك، بلغت قيمة الواردات الفلسطينية من "إسرائيل" في عام 2022، 4 مليارات دولار، أي ما يعادل 56% من إجمالي الواردات البالغة 8 مليارات دولار، في المقابل، بلغت الصادرات الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة 1.3 مليار دولار، أي ما يعادل 88% من إجمالي الصادرات، وبالمقارنة، بلغت الصادرات الإسرائيلية إلى العالم في عام 2022، 76.9 مليار دولار، منها 4.6 مليارات دولار فقط (5.9%) ذهبت إلى السوق الفلسطينية. تشير هذه الأرقام إلى التأثير الكبير الذي يمكن أن تحدثه مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في السوق الفلسطينية، إذا استمرت وتوسعت، على تمكين الاقتصاد الفلسطيني، والتحول نحو اقتصاد المقاومة، وتعزيز ثقافة المقاومة والمقاطعة كشكل من أشكال النضال الشعبي.
ووفقًا لإحصاءات الكيان نفسه، أسفرت المقاطعة العالمية للبضائع الإسرائيلية في عامي 2013 و2014 عن خسارة تراكمية بلغت حوالي 15 مليار دولار للكيان، وأدت إلى انسحاب العديد من الاستثمارات الأجنبية من الأراضي المحتلة، دفع هذا وزير مالية الكيان آنذاك إلى التحذير من عواقب حركة المقاطعة المتزايدة الانتشار عالميًا.
مع بدء الإبادة الجماعية في غزة، برز تأثير المقاطعة على الأسواق العالمية وتغيّر سلوك المستهلك تجاه منتجات الشركات الصهيونية، حتى أن دعوات مقاطعة العلامات التجارية المؤيدة لـ"إسرائيل" ازدادت في الدول الغربية، وتأثرت بعض هذه العلامات التجارية، مثل ماكدونالدز وكي إف سي وزارا، بشدة، كما انخفضت قيمة أسهم ستاربكس، ولم يقتصر تأثير حملات المقاطعة على تغيير سلوك المستهلك، بل انضمت العديد من المتاجر والمطاعم والمقاهي إلى الحركة بوقف بيع المنتجات المقاطعة.
كما أدت حملات المقاطعة ضد "إسرائيل" إلى سحب العديد من الاستثمارات هذا العام، حيث أوقفت شركة إنتل العملاقة للتكنولوجيا بناء مصنع جديد بقيمة 25 مليار دولار في الأراضي المحتلة، وألغى صندوق البترول النرويجي، الذي تبلغ أصوله 1.6 تريليون دولار، جميع استثماراته في السندات الإسرائيلية، وأنهت شركتان يابانيتان كبيرتان، هما إيتوشو ونيبون إيركرافت، تعاونهما مع أكبر شركة خاصة لتصنيع الأسلحة في "إسرائيل" (إلبيت سيستمز)، وأعلنت الحكومة الكولومبية مؤخرًا تعليق صادرات الفحم إلى الكيان.
فعالية مقاطعة البضائع الإسرائيلية وتعزيز الاقتصاد الفلسطيني
تشير البيانات المذكورة أعلاه إلى أن أكثر من نصف واردات السوق الفلسطينية تأتي من الأراضي المحتلة، وبالطبع، انخفضت قيمة الواردات من الكيان بعد الحرب؛ حيث بلغت في الربع الأخير من عام 2023 ما قيمته 891.7 مليون دولار، بينما بلغت في الربع الأخير من عام 2022 ما قيمته 1.2 مليار دولار، ويُلاحظ أيضًا انخفاض ملحوظ مقارنةً بأرباع ما قبل الحرب، ويعود ذلك إلى عدة عوامل، منها تدهور الوضع الاقتصادي، وتشديد القيود الإسرائيلية على حركة الأفراد والبضائع، بالإضافة إلى المقاطعة الفلسطينية لبضائع كيان الاحتلال، واستمر هذا التراجع في الربعين الأول والثاني من هذا العام، حيث ظلت قيمة الواردات الإسرائيلية أقل من 900 مليون دولار.
يكشف النظر عن كثب إلى الواردات الإسرائيلية إلى السوق الفلسطينية أنه من خلال القضاء على ثلث هذه الواردات فقط (ما يعادل 1.6 مليار دولار) وضخها في السوق الفلسطينية، يمكن توقع خلق أكثر من 100,000 وظيفة جديدة (حوالي 10٪ من القوى العاملة الفلسطينية)، يوجد حاليًا 36 منتجًا يمكن استبدالها بالإنتاج المحلي، بما في ذلك المياه المعدنية والغازية، ومنتجات الألبان، والسلع الزراعية، والبيض، والفواكه والخضروات، والأعلاف والأسمدة الحيوانية، والحيوانات الحية، والإسمنت، والهواتف المحمولة، والشوكولاتة والحلوى، والقمح.
ووفقًا للبيانات، بلغت حصة المنتجات المحلية في السوق الفلسطينية حوالي 43٪ في عام 2022، والتي زادت بنسبة 2٪ في عام 2023، بعد مقاطعة بضائع الاحتلال، ما يعني المزيد من فرص العمل.
تسببت مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في انخفاض مبيعات العصائر والمشروبات الإسرائيلية بنسبة 82٪ وانخفاض منتجات الألبان بنسبة 60٪، بينما زاد الإنتاج في الصناعات الفلسطينية للمشروبات والمنظفات والمواد الكيميائية بنسبة تتراوح بين 200 و300٪.
عمليًا، شهد السوق الفلسطيني مقاطعة واسعة للعديد من السلع الاستهلاكية الإسرائيلية، وخاصةً المنتجات الغذائية، ورغم مقاطعة بعض السلع قبل الحرب، إلا أن نطاق هذه المقاطعة ازداد بعد الحرب، كما برزت بوضوح المنتجات الفلسطينية الصنع، ولا سيما في مجالات الألبان والمشروبات والمنظفات.
ووفقًا للرئيس التنفيذي لشركة الجنيدي (شركة منتجة للألبان)، فإن مقاطعة المنتجات الإسرائيلية بعد الحرب أدت إلى زيادة مبيعاتها بنسبة 5%، رغم توقف صادراتها إلى غزة بنسبة 20%. وأشار إلى أن الشركات الصهيونية كانت تسيطر سابقًا على 85% من سوق الألبان الفلسطيني، أما اليوم، فتسيطر المنتجات المحلية على حوالي 90% من هذا السوق.
من جهة أخرى، أعلن رئيس مجلس إدارة شركة الدواجن الفلسطينية أن عرض الدجاج في السوق الفلسطينية انخفض خلال الحرب نتيجةً لانخفاض استيراد بيض التفريخ من "إسرائيل" وانخفاض تهريبه، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الدجاج، وبالتالي زيادة الربحية، وفي لقاء مع وسائل إعلام محلية، أشار مدير المبيعات والتسويق في شركة السلام للفرزات أيضاً إلى زيادة المبيعات بنسبة 12% مقارنة بالعام الماضي، وأعلن عن توسعة خط الإنتاج وإضافة الدجاج المجمد إلى منتجات الشركة.
مع ازدياد الوعي العام بأهمية المقاطعة، وتنامي مشاعر الكراهية العالمية للاحتلال والبضائع الإسرائيلية، والتي اشتدت في أعقاب جرائم الكيان الصهيوني، ازداد الإقبال على المنتجات الفلسطينية المحلية والبدائل الأجنبية.
ورغم ازدياد مبيعات بعض المنتجات المحلية، وظهور منتجات جديدة محلية أو حتى مستوردة، إلا أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن نجاح المقاطعة لا يُقاس بالأرقام فحسب، بل هو بمثابة بذرة لتعزيز اقتصاد المقاومة، وزيادة الشعور الجماعي بالحاجة إلى التغيير والمقاومة.
المقاطعة وسيلةً لتقويض هيمنة الاقتصاد الإسرائيلي
لعقود، اعتمد الفلسطينيون نهج اقتصاد المقاومة؛ وهو نهج يُعبّر عن سياسات وإجراءات اقتصادية لمواجهة العقوبات من خلال أدوات تُعزز الاستقلال الاقتصادي، وتُؤدي إلى إعادة بناء تدريجي للاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، بما يتماشى مع متطلبات وأهداف عملية التحرر الوطني السياسية.
الآن فرصة تاريخية سانحة لإحياء نهج اقتصاد المقاومة، وتعزيز مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، يتطلب هذا العملَ جملةً من السياسات والإجراءات التي تُعزز المقاطعة، وتُنهِض الاقتصاد الفلسطيني، وتكوين إرادة سياسية جماعية للتنسيق بين جميع المؤسسات والفصائل لتعزيز المقاطعة، والتحرك تدريجيًا نحو التحرر الاقتصادي من التبعية لـ"إسرائيل"، ولتحقيق هذا الهدف، يجب تكليف الحكومة الفلسطينية بالعمل بجدية أكبر، ووضع خطة شاملة لتوجيه الاستثمار نحو السلع ذات البدائل الفلسطينية.
كما يجب دعم هذه الاستثمارات بتوفير الحماية والتسهيلات والإعفاءات الضريبية لتعزيز الاقتصاد المقاوم، إضافةً إلى ذلك، من الضروري تطبيق قرار عام ٢٠١٤ بزيادة التعريفة الجمركية بنسبة ٣٥٪ على جميع السلع المستوردة ذات البدائل الفلسطينية (مثل الملابس والألمنيوم والأحذية) لدعم الإنتاج المحلي.
كما يجب اعتماد سياسات حماية ضريبية فورية لدعم بعض الصناعات (مثل المعادن والمنتجات الغذائية والملابس والأثاث) التي تُشكل أكثر من ٧٠٪ من الصادرات و٩٪ من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تواجه هذه الصناعات منافسة غير عادلة بسبب وجود سلع مستوردة وصهيونية في السوق الفلسطينية.
لدعم الإنتاج المحلي، ينبغي اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع استيراد البضائع الإسرائيلية، والتعامل قانونيًا مع التجار الذين يستوردون هذه المنتجات ببدائل محلية، وفقًا لـ"القانون رقم 4 لسنة 2010 بشأن حظر منتجات المستوطنات الصهيونية ومكافحتها".
باختصار، لا بد من القول إن المقاطعة ليست مجرد إجراء رمزي، بل هي خطوة أساسية نحو بناء اقتصاد فلسطيني مستقل، كأحد متطلبات المضي قدمًا نحو هدف تحرير القدس من الاحتلال.