الوقت- تأتي زيارة شهباز شريف، رئيس وزراء باكستان، إلى إيران في لحظة تاريخية فارقة تشتعل فيها نيران التوتر الجيوسياسي بين إسلام آباد ونيودلهي، وتترنح فيها العلاقات العريقة لباكستان مع حلفائها التقليديين في الخليج الفارسي.
تجسّد هذه الزيارة انعطافةً محوريةً في البوصلة الدبلوماسية الباكستانية، حيث بدأت إسلام آباد - ولا سيما بعد تنامي النسيج الاستراتيجي الهندي مع الدول الخليجية - تنظر إلى طهران بعين الشريك الجوهري أكثر من أي حقبة مضت.
كشفت المواجهة الأخيرة بين الغريمين النوويين، باكستان والهند، عن تحولات جذرية في ميزان القوى الإقليمي، وأماطت اللثام عن حقيقة مفادها بأن إسلام آباد لم تعد تستطيع الاتكاء على الدعم اللامشروط من حلفائها التاريخيين كالولايات المتحدة.
وفي المقابل، فإن الصعود المتسارع للتحالفات الاقتصادية والأمنية بين الهند ودول كالإمارات والمملكة العربية السعودية والبحرين، قد ألقى بظلاله على الحسابات الاستراتيجية الباكستانية، دافعاً إياها نحو إعادة تشكيل خارطة أولوياتها، وفي خضم هذا المشهد المتقلب، تبرز إيران بثقلها الجيواستراتيجي، وكنوزها الطاقوية، وتقاطع مصالحها الأمنية مع باكستان، كشريك محوري في المعادلة الإقليمية الجديدة.
ينبغي قراءة زيارة شهباز شريف إلى طهران من خلال هذه العدسة الاستراتيجية؛ فهي ليست مجرد زيارة عابرة، بل خطوة واثقة نحو ترسيخ أواصر التعاون في شتى المجالات الأمنية والطاقوية والعبور الإقليمي، وتعكس تطلع باكستان إلى تنويع حلفائها في ظل مشهدٍ جيوسياسي يتبدل بوتيرة متسارعة. هل ستدشّن هذه الزيارة عهداً جديداً في العلاقات الإيرانية-الباكستانية؟ ستجلي الأيام القادمة غموض هذا السؤال، غير أن الثابت الجلي هو حاجة البلدين الملحة إلى رصّ الصفوف في مواجهة التحديات المشتركة التي تعصف بالمنطقة.
تلاقي الرؤى الإيرانية-الباكستانية في المشهد الإقليمي: من قضية فلسطين إلى ملف اليمن
يحطّ شهباز شريف الرحال في العاصمة الإيرانية في وقتٍ تتلاطم فيه أمواج الأزمات في أرجاء العالم الإسلامي، وتقف إيران وباكستان، بوصفهما قطبين إسلاميين مؤثرين، على أرضية مشتركة من المبادئ والرؤى الإقليمية، ويتجلى ذلك بوضوح في موقفهما المبدئي تجاه القضية الفلسطينية، إذ يرفض البلدان الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، ويدينان بحزم المجازر الوحشية التي ترتكب بحق أبناء غزة والعدوان العسكري الإسرائيلي المتواصل، ويكتسي هذا التناغم السياسي بأهمية استثنائية، ولا سيما في ظل هرولة بعض الدول العربية نحو مستنقع التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وفي هذا المضمار، أشاد سماحة آية الله الخامنئي المرشد الأعلى للثورة في إيران في معرض حديثه مع رئيس الوزراء الباكستاني، بالموقف المشرف والصلب لباكستان تجاه القضية الفلسطينية عبر العقود، قائلاً: “في حين تعرضت الدول الإسلامية على مرّ السنين لإغراءات متواصلة لنسج علاقات مع الكيان الصهيوني، ظلت باكستان عصيةً على هذه المغريات، راسخةً في موقفها المبدئي”.
ووصف سماحته قضية فلسطين بأنها جوهر قضايا الأمة الإسلامية، مستعرضاً المأساة الإنسانية في غزة: “لقد بلغت فظائع غزة حداً دفع المواطنين العاديين في أوروبا وأمريكا للخروج في مظاهرات احتجاجية ضد سياسات حكوماتهم، بينما - وللأسف الشديد - تصطف بعض الدول الإسلامية إلى جانب الكيان الصهيوني في هذه اللحظة التاريخية الفارقة”.
تلتقي رؤى إسلام آباد وطهران حول ضرورة توحيد صفوف العالم الإسلامي في مواجهة الغطرسة الصهيونية، وهو نهج من شأنه أن يعزّز خطاب المقاومة ويؤصّله في وجدان المنطقة.
ولا يمكن إغفال فصل مضيء آخر في سجل التعاضد الإقليمي والإسلامي بين الدولتين، يتمثل في الموقف الباكستاني النبيل من العدوان السعودي على اليمن عام 2015، حيث آثرت إسلام آباد - رغم سياط الضغوط السياسية والاقتصادية من الرياض وواشنطن - أن تنأى بنفسها عن المشاركة في التحالف السعودي ضد الشعب اليمني، ما يعكس إمكانية انسجام هذا البلد مع محور المقاومة في معترك الأزمات الإقليمية.
العبور الإقليمي، حجر الزاوية في صرح التعاون الاقتصادي بين طهران وإسلام آباد
تحمل زيارة شهباز شريف إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية في طياتها بذور نهضة اقتصادية واعدة بين البلدين، فقد ناهز حجم التبادل التجاري بين إيران وباكستان في العام المنصرم (2024) ثلاثة مليارات دولار، ويتطلع صناع القرار في البلدين إلى مضاعفة هذا الرقم ليبلغ عشرة مليارات دولار، وهو طموح قابل للتحقق بوتيرة متسارعة من خلال استنهاض الطاقات الكامنة، ولا سيما في مجالات العبور والطاقة والتجارة الحدودية.
وفي سياق تفعيل إمكانات العبور، يتمتع كلا البلدين بعضوية منظمات إقليمية وازنة كمنظمة التعاون الاقتصادي (إيكو) ومنظمة شنغهاي للتعاون، ما يتيح لهما استثمار هذه الأطر المؤسسية في تيسير التبادلات التجارية وتدفق الاستثمارات المشتركة.
وقد شدّد المرشد الأعلى للثورة في إيران خلال لقائه برئيس الوزراء الباكستاني، على أهمية تضافر جهود البلدين لإضفاء زخم أكبر على منظمة التعاون الاقتصادي.
ومن أبرز المشاريع الاستراتيجية التي تنطوي على إمكانات هائلة لتعزيز النسيج الاقتصادي بين إيران وباكستان، ممر الشمال-الجنوب للنقل الدولي (INSTC)، وعلى الرغم من أن إسلام آباد نظرت في الماضي إلى ميناء تشابهار كمنافس خطير لمشروعها العابر في ميناء جوادر، إلا أن هذا الممر المحوري الذي يربط إيران بروسيا والهند ودول آسيا الوسطى، يمكن - عبر تشبيكه مع منظومة العبور الباكستانية - أن يتحول إلى شريان تجاري حيوي ينبض بالحياة في أوصال المنطقة، ويسهم مع تعاظم التشابك الاقتصادي في ترسيخ دعائم السلام والاستقرار الإقليمي.
أما في ميدان الطاقة، فتمتلك إيران بما حباها الله من ذخائر هائلة من الغاز الطبيعي، مفاتيح تلبية الاحتياجات الطاقوية الباكستانية. ويمثّل مشروع خط أنابيب الغاز الإيراني-الباكستاني (السلام) - الذي طال انتظاره بسبب العقوبات الدولية - فرصةً ذهبيةً لتغطية جانب كبير من احتياجات إسلام آباد للطاقة حال تذليل العقبات، مع ما يصاحب ذلك من منافع اقتصادية جمة للطرفين.
خاتمة القول
لا تقتصر وفادة شهباز شريف إلى إيران على مجرد تعزيز أواصر التعاون الاقتصادي بين البلدين، بل تمتد لتشمل آفاق التناغم الاستراتيجي في المشهد الإقليمي المتقلب، وتعكس المواقف المتسقة تجاه قضية فلسطين ومأساة غزة، أن طهران وإسلام آباد تستطيعان أن تشكلا في المستقبل المنظور أداةً لنهج مستقل وعادل في التعامل مع قضايا العالم الإسلامي المتشابكة، وإذا ما أحسن البلدان صياغة هذا التعاون وتطويره، فقد يفضي إلى ميلاد قطب إقليمي جديد في معادلات غرب آسيا، يقف سداً منيعاً في وجه التدخلات الخارجية ومشاريع الهيمنة والاحتلال.