الوقت - في الأيام القليلة الماضية، كانت إندونيسيا على موعد مع زيارة رفيعة المستوى، حيث حلّ بها ضيف كريم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، وعقب عودته إلى بلاده، أبدى قاليباف امتنانه العميق لكرم الضيافة الذي قوبل به، وقال معبّرًا: “أشكر الشعب الإندونيسي على ما غمرني به من محبة وودّ خلال زيارتي لهذا البلد، لقد لمست عن كثب عشق شبابهم لثقافة إيران وولاءهم الراسخ لقيم الإسلام”.
تعدّ هذه الزيارة أحد أبرز المحطات في مسار العلاقات الإيرانية الإندونيسية، بالنظر إلى ما حملته من أهداف سامية، كان على رأسها، كما صرّح قاليباف، إيصال صوت الشعب الفلسطيني المظلوم إلى المحافل الدولية، واستكشاف آفاق التعاون الاقتصادي مع الدول الإسلامية، ولا سيما إندونيسيا التي تعدّ أكبر دولة إسلامية، فضلًا عن تعميق الروابط الثقافية، وتوطيد أواصر المحبة بين الشعبين.
إندونيسيا ودورها الريادي في نصرة القضية الفلسطينية
تتبوأ إندونيسيا موقعًا رياديًا بين الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، حيث أثبتت على مرّ السنوات الماضية أنها أكثر من مجرد حليف، بل شريك في النضال الفلسطيني، وخلال العشرين شهرًا الماضية التي عصفت فيها الحرب بقطاع غزة، لم تتوانَ إندونيسيا عن تقديم أصدق صور الدعم، إذ شهدت شوارعها أعظم المسيرات الشعبية تضامنًا مع غزة، في مشهد يعكس عمق الوعي الشعبي بالقضية الفلسطينية.
وفي تقرير نشره موقع “إندونيسيا اليوم” الناطق بالعربية، أكّد أن إندونيسيا لم ولن تتراجع عن دعمها الثابت لنضال الشعب الفلسطيني، بل إنها مصممة على مواصلة مسيرتها حتى تتحقق آمال الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وما يثير الإعجاب أن هذا الدعم الإندونيسي، في كثير من الأحيان، تجاوز في قوته وجزالته مواقف بعض الدول العربية، ليغدو نموذجًا يُحتذى به في التضامن الإسلامي.
الجهود الدبلوماسية الإندونيسية على الساحة الدولية
منذ أن بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تتردد إندونيسيا في إبداء موقفها الحازم والداعم لحقوق الفلسطينيين، فكان صوتها حاضرًا في كل محفل دولي، وفي عام 2024، شاركت إندونيسيا بفعالية في عدد من الاجتماعات الدولية، حيث أدانت العدوان الإسرائيلي بشدة، ودعمت مشاريع قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار، وقد قامت وزيرة الخارجية السابقة، رتنو مرسودي، بجولات دبلوماسية شملت الأردن والمملكة العربية السعودية، حيث عملت على حشد الدعم داخل منظمة التعاون الإسلامي للضغط من أجل تحقيق هدنة إنسانية.
وفي أروقة الأمم المتحدة، كانت كلمة نائب وزير الخارجية الإندونيسي، أنيس ماتا، خلال جلسة الجمعية العامة في نوفمبر 2024، خير شاهد على التزام إندونيسيا بمبادئها، فقد ألقى خطابًا أكّد فيه دعم بلاده الثابت لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤوليته في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ورفع الظلم عن الشعب الفلسطيني.
الدعم الإنساني والإغاثة الطبية
لم يكن دعم إندونيسيا لغزة محصورًا في الجانب السياسي والدبلوماسي، بل امتد ليشمل المساعدات الإنسانية والإغاثية، التي كانت ولا تزال شاهدًا على سخاء هذا الشعب المسلم العظيم، فقد قدمت إندونيسيا دعمًا سخيًا للمستشفيات الفلسطينية، معنيةً بعلاج الجرحى والمصابين، وأرسلت قوافل من المساعدات الغذائية والطبية، فضلًا عن إيفاد فرق طبية متخصصة إلى القطاع.
ومن أبرز رموز هذا الدعم الإنساني المستشفى الإندونيسي في شمال قطاع غزة، الذي أنشئ بتمويل إندونيسي خالص، وعلى الرغم من تعرضه مرارًا للقصف الإسرائيلي، فإنه ظل صامدًا كمأوى للجرحى وملاذ للمرضى، يروي قصة تضامنٍ لا تعرف التراجع.
وفي بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في نوفمبر 2023، أرسلت إندونيسيا 21 طنًا من المساعدات الطبية، تضمنت معدات وأدوية أساسية، فيما أرسلت في يناير 2024 مستشفى عائمًا مجهزًا بأحدث التقنيات الطبية، في خطوة إنسانية غير مسبوقة.
أما على صعيد التبرعات الشعبية، فقد كشفت إحصاءات الصندوق الوطني للزكاة في إندونيسيا عن جمع 15.6 مليون دولار لدعم غزة، فيما تم إرسال 4400 طن من المساعدات، وهذه الأرقام، على ضخامتها، لا تشمل المساهمات التي قدمتها الجمعيات الخيرية والمؤسسات المدنية، ما يبرز حجم التلاحم الشعبي مع القضية الفلسطينية.
تعبئة الرأي العام الداخلي والخارجي
في مشهدٍ يفيض بالتلاحم الشعبي والإصرار الجماعي، شهدت إندونيسيا خلال عام 2024 سلسلةً من الفعاليات الكبرى التي عبّرت عن تضامنها العميق مع القضية الفلسطينية، حيث انتظمت المظاهرات في مختلف المدن، وتنوّعت بين تجمعات حاشدة ومسيرات شعبية عارمة، تخللتها مؤتمرات صحفية وندوات فكرية هدفت إلى تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين تحت وطأة الاحتلال.
وفي الخامس من نوفمبر 2023، أضحت العاصمة جاكرتا مسرحًا لأحد أعظم التظاهرات الشعبية، حيث احتشد فيها ما يقارب مليونًا ونصف مليون شخص من مختلف أطياف المجتمع، متجاوزين حدود الأديان والانتماءات، ليقفوا صفًا واحدًا ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وقد علت أصواتهم المنددة بالحرب الظالمة، مطالبين بوقف العدوان وإنهاء الوحشية التي تُرتكب بحق الأبرياء.
ولم يكن هذا المشهد الشعبي الجليل خاليًا من الحضور الرسمي، إذ شارك فيه وزراء ومسؤولون حكوميون وزعماء أحزاب سياسية، إلى جانب ممثلي المنظمات الإسلامية وأعضاء البرلمان، مجسّدين بذلك وحدة الصف الوطني في نصرة المظلوم.
وفي صباح الأحد الحادي عشر من نوفمبر 2023، تكررت مشاهد التضامن في مدينة بيكاسي، القريبة من العاصمة جاكرتا، حيث شهدت المدينة تظاهرةً حاشدةً أخرى جاءت لتدقّ ناقوس الرفض والغضب بعد مرور سبعة وثلاثين يومًا على العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، كان المشاركون في هذه التظاهرة، بجموعهم الغفيرة وهتافاتهم الراسخة، بمثابة صوت الإنسانية الذي يرفض الظلم ويُدين العدوان.
القضية الفلسطينية وتأثيرها على السياسة الداخلية الإندونيسية
ظلت القضية الفلسطينية طوال العقود الماضية ركنًا أساسيًا في نسيج السياسة الداخلية الإندونيسية، تتجلى في المواقف المبدئية التي تتبناها الدولة إزاء معاناة الشعب الفلسطيني، فقد أضحت فلسطين رمزًا للالتزام الإندونيسي بالقيم الإنسانية ومبادئ العدالة التي تشكّل قاعدةً راسخةً لسياستها الخارجية، ولم تتردد الحكومة الإندونيسية في الإعلان، مرارًا وبأعلى درجات الوضوح، عن رفضها القاطع للاحتلال الإسرائيلي، معتبرةً هذا الموقف جزءًا أصيلًا من هويتها الوطنية الجامعة، ما ألقى بظلاله العميقة على صياغة علاقاتها الخارجية عبر السنين.
وفي صميم رؤيتها السياسية، تضع إندونيسيا القضية الفلسطينية في مقدمة أولويات سياستها الخارجية، إذ ترى جاكرتا أن تحقيق السلام الدائم في الشرق الأوسط مرهونٌ بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، يعيد الحق إلى أصحابه وينهي معاناة شعبٍ طال انتظاره للحرية، ومن هذا المنطلق، يُعدّ دعم فلسطين جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية المستقلة لإندونيسيا.