الوقت- في خضم الحرب المستمرة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والتي حصدت حتى الآن عشرات الآلاف من الأرواح، معظمهم من النساء والأطفال، برزت مؤخراً دراسة مثيرة للجدل تكشف حجم التورط البريطاني في جرائم الحرب المرتكبة في القطاع. الدراسة، التي صدرت عن مركز أبحاث دولي مستقل مختص بتوثيق الانتهاكات العسكرية، لم تتوقف عند توجيه الاتهام فقط بل قدّمت أدلة وشهادات وتحليلات تقنية تثبت الدعم اللوجستي والاستخباراتي والعسكري البريطاني للكيان الإسرائيلي في واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
ومع انتشار مضمون الدراسة في وسائل الإعلام والمراكز الحقوقية، ثار جدل واسع داخل أروقة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث عبّرت بعض الدول الأعضاء عن غضبها وقلقها من انزلاق بريطانيا إلى مستوى دعم مباشر لجرائم ترتقي إلى جرائم حرب، وربما جرائم ضد الإنسانية.
دعم استخباراتي وتوريد أسلحة محرّمة
تشير الدراسة، التي استندت إلى تقارير استخباراتية مسرّبة وصور أقمار صناعية وشهادات عسكريين سابقين، إلى أن بريطانيا لم تكن مجرد مراقب أو داعم دبلوماسي للكيان الإسرائيلي، بل كانت فاعلاً نشطاً في العمليات على الأرض، عبر دعم استخباراتي دقيق وتوريد مكوّنات عسكرية حساسة.
1. دعم استخباراتي مباشر
بحسب الدراسة، وفّرت الاستخبارات البريطانية (MI6) معلومات حيوية لجيش الاحتلال الإسرائيلي حول مواقع قيادية مفترضة لحركة حماس، وشبكات الأنفاق في غزة. وتم ذلك عبر تحليل صور أقمار صناعية بريطانية، واستخدام محطات مراقبة بحرية في قبرص، وخاصة قاعدة «أكروتيري» البريطانية، التي تُستخدم منذ سنوات في عمليات التجسس في الشرق الأوسط.
وقد كشف أحد الموظفين السابقين في الاستخبارات البريطانية، لم يذكر اسمه لأسباب أمنية، أن «الحكومة البريطانية تعلم جيداً أن تلك المعلومات تُستخدم في قصف أهداف مدنية، تحت ذريعة استهداف عناصر حماس». ووفقًا للدراسة، فقد أسفرت بعض هذه الغارات عن مقتل مئات المدنيين، بمن فيهم أطفال داخل مدارس ومستشفيات.
2. توريد مكوّنات عسكرية للكيان الإسرائيلي
كشفت الدراسة أن عدة شركات بريطانية حصلت على تراخيص من وزارة الدفاع لتوريد أجزاء أساسية من الأسلحة المستخدمة في القصف الإسرائيلي، منها:
رقائق إلكترونية لأنظمة التوجيه في الصواريخ الذكية.
مكوّنات الطائرات المقاتلة «إف-35»، التي تُستخدم بكثافة في غارات غزة.
أجهزة تشويش وتشغيل طائرات مسيّرة.
بعض هذه المكونات تم توريدها بعد اندلاع الحرب، أي بعد وقوع آلاف القتلى المدنيين، ما يعني أن الحكومة البريطانية لم تتوقف عن تصدير المعدات رغم معرفتها بنتائج القصف.
صدمة داخل «الناتو» وانقسام في المواقف
إثر نشر الدراسة، سارعت بعض دول الناتو، ولا سيما ألمانيا وكندا والنرويج، إلى التعبير عن قلقها من تأثير هذا التورط البريطاني على سمعة الحلف ومبادئه المعلنة.
1. موقف ألماني حاد
أفاد مصدر دبلوماسي ألماني أن «الدعم البريطاني يضعف الموقف الأخلاقي للناتو في الساحة الدولية، ويعرضنا لاتهامات مزدوجة المعايير»، مشيرًا إلى أن دول الحلف تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما تشارك بشكل غير مباشر في المجازر بغزة.
2. كندا والنرويج: دعوة للتحقيق
طالبت كندا والنرويج بفتح تحقيق مستقل داخل الحلف لمراجعة مدى تورط أعضائه في النزاع الدائر، وأكدتا أن الالتزام بالقانون الدولي يجب أن يكون أساس عمل الحلف.
3. رد بريطاني دفاعي
وزارة الدفاع البريطانية نفت الاتهامات بشكل رسمي، ووصفت الدراسة بأنها «متحيزة ومبنية على مصادر غير موثوقة». وقال ناطق باسم الحكومة إن «بريطانيا لا تقدم أسلحة تُستخدم بشكل غير قانوني، وإن أي دعم يتم ضمن حدود القانون الدولي». غير أن الناشطين الحقوقيين وصفوا الرد بأنه تهرّب واضح من المسؤولية.
هل تقع بريطانيا تحت طائلة المساءلة الجنائية؟
بحسب خبراء في القانون الدولي، فإن التورط البريطاني، إذا ثبت بالوثائق والشهادات، قد يجعل مسؤولين في الحكومة عرضة للمساءلة في المحاكم الدولية.
1. اتفاقيات جنيف وجرائم الحرب
تنص اتفاقيات جنيف بوضوح على أن تقديم دعم لوجستي أو استخباراتي لطرف يرتكب جرائم حرب يعدّ مشاركة غير مباشرة في تلك الجرائم. وبما أن التقارير الدولية والحقوقية، ومنها تقارير الأمم المتحدة، أكدت ارتكاب إسرائيل جرائم بحق المدنيين في غزة، فإن تورط بريطانيا في تسهيل هذه الجرائم يُعتبر انتهاكاً خطيراً.
2. اختصاص المحكمة الجنائية الدولية
رغم أن بريطانيا دولة طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنها تُحاجج دائمًا بأنها لا تخضع للملاحقة إلا في حالات استثنائية. لكن عددًا من الخبراء، مثل البروفسور مارك إليوت من جامعة كمبريدج، يرى أن «الملف البريطاني بات على طاولة المحكمة، خصوصًا مع توثيق العلاقة بين الدعم البريطاني ونتائج القصف».
تداعيات داخلية: انقسام سياسي وغضب شعبي
أثار التقرير جدلاً واسعاً داخل بريطانيا نفسها، حيث طالبت المعارضة البرلمانية، وخاصة حزب العمال وبعض النواب الليبراليين، بالكشف عن تفاصيل عقود الأسلحة والدعم العسكري.
1. موقف حزب العمال
زعيم حزب العمال صرّح بأن «بريطانيا لا يجب أن تكون شريكاً في سفك الدماء، ويجب فتح تحقيق برلماني حول أي دور غير مشروع في دعم الحرب على غزة».
2. احتجاجات شعبية
خرجت مظاهرات في لندن ومانشستر ومدن أخرى تطالب بوقف بيع الأسلحة لإسرائيل ومحاسبة المسؤولين عن دعم العدوان. وقد رفع المتظاهرون شعارات من قبيل: «أيادينا ملطخة بالدماء»، و«بريطانيا شريك في المجازر».
العلاقة الأمنية بين بريطانيا والكيان الإسرائيلي
لطالما شكّلت العلاقة الأمنية والعسكرية بين بريطانيا وإسرائيل محوراً من محاور التحالف الغربي في الشرق الأوسط. منذ إعلان قيام دولة الاحتلال عام 1948، لعبت بريطانيا دوراً مركزيًا في ترسيخ التفوق العسكري الإسرائيلي، سواء عبر صفقات تسليح أو شراكات تدريبية واستخباراتية.
وخلال العقد الأخير، وُقعت عشرات الاتفاقيات الأمنية بين البلدين، أبرزها اتفاقية «الشراكة الدفاعية» عام 2020، التي سمحت بتبادل تقني وتدريب مشترك على مكافحة «الإرهاب». لكن الانتقادات الحقوقية لتلك العلاقة تصاعدت مع كل جولة قصف على غزة.
الدراسة فتحت الباب واسعًا أمام مساءلة أخلاقية وقانونية لبريطانيا، ولكن هل يمتلك المجتمع الدولي الأدوات والرغبة للمحاسبة؟ السؤال يبقى مفتوحاً، لكن هناك سيناريوهات محتملة:
1. تفعيل الآليات الأوروبية لمراقبة السلاح
يمكن للاتحاد الأوروبي فرض قيود جديدة على صادرات السلاح لبريطانيا إذا ثبت تورطها في انتهاك قواعد الاستخدام.
2. تصعيد في المحكمة الجنائية الدولية
قد تقوم منظمات حقوقية فلسطينية ودولية بتقديم أدلة مستندة إلى الدراسة، لإدخال بريطانيا في دائرة التحقيق إلى جانب إسرائيل.
3. عزل سياسي داخل الناتو
قد تُواجه بريطانيا عزلة ضمنية داخل الحلف، في حال تبين أنها تجاوزت حدود العمل الجماعي المتفق عليه، وأضرت بصورة الحلف في الشرق الأوسط.
هل تحاسب بريطانيا على جرائم غزة؟
تسلط هذه الدراسة الضوء على الدور المزدوج الذي تلعبه الدول الغربية في النزاعات الدولية: فهي تدّعي حماية القانون الدولي وحقوق الإنسان، بينما تساهم أحيانًا، بشكل مباشر أو غير مباشر، في سفك الدماء وانتهاك الحقوق.
تورط بريطانيا في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، كما تكشفه هذه الدراسة، ليس مجرد تفصيل ثانوي، بل هو ناقوس خطر يدق في قلب النظام الدولي. فإذا لم تُحاسب لندن على دعمها للمجازر، فإن ذلك يعني ترسيخ سياسة الإفلات من العقاب، وتشجيع مزيد من الدول على ارتكاب الجرائم بذريعة المصالح والتحالفات.
إن المطالبة بالعدالة للفلسطينيين، في هذه المرحلة، تمر عبر مساءلة من يدّعون الديمقراطية، لكنهم يدعمون القتل بصمت أو بتواطؤ علني.