الوقت- تشهد الموارد المعدنية الاستراتيجية سباقاً عالمياً محموماً، حيث تجاوزت قيمتها السوقية 320 مليار دولار، مع توقعات بتضاعف الطلب أربعة أضعاف بحلول 2050، تتمركز في إفريقيا، القارة الغنية باحتياطيات مهمة، نحو 30% من هذه الثروات، ما يجعلها ساحة تنافس محورية للقوى العظمى.
شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً غير مسبوق في الطلب على المعادن الحيوية لدعم قطاعات الطاقة والتحول الرقمي والأمن القومي، وفقاً لبيانات حديثة، قفزت الاستثمارات في هذا القطاع بنسبة 20% عام 2021 و30% عام 2022، وسط تنافس دولي يتصاعد حدّةً، ولا سيما مع صعود الصين كلاعب رئيسي، فقد عززت بكين وجودها عبر 19 اتفاقية تعدين مع دول إفريقية، مخلّفة تحديات جيوسياسية للغرب.
إفريقيا: كنز استراتيجي بانتظار الاستغلال
تضم القارة السمراء موارد نادرة مثل الكوبالت (47% من الاحتياطي العالمي في الكونغو الديمقراطية)، والكروم والبلاتين في جنوب إفريقيا، رغم ذلك، تواجه تحديات في الاستكشاف والبنية التحتية، حيث تحتل المرتبة الثالثة في جذب الاستثمارات بعد أمريكا اللاتينية وكندا، تشير الأرقام إلى أن 13.9% من الاستثمار الأجنبي المباشر في التعدين العالمي توجّه لإفريقيا بين 2018-2022.
تحالفات جديدة واستراتيجيات متنافسة
تدخل القوى الكبرى في تحالفات مع دول إفريقية لضمان حصصها من الموارد، بينما تركّز الصين على الهيمنة عبر استثمارات ضخمة (10 مليارات دولار في واردات المعادن النادرة عام 2022)، تسعى الولايات المتحدة لتعزيز شراكاتها، وخاصة في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. كما تبرز روسيا عبر تعاون أمني وتقني، بينما توسع دول كالهند والبرازيل نفوذها.
رغم الفرص الاقتصادية الواعدة، تعاني إفريقيا من فجوة في القيمة المضافة، حيث تحصل على 10% فقط من عوائد مواردها بسبب تصدير المواد الخام، كما تهدد المنافسات بتأجيج النزاعات، حيث تستغل الجماعات المسلحة المناجم لتمويل أنشطتها، هنا، تُطرح تساؤلات حول قدرة الحكومات المحلية على توظيف التنافس العالمي لمصلحة تنميتها، عبر تعزيز الشفافية والاستثمار في التصنيع.
تحوّلات جيوسياسية: انحسار النفوذ الفرنسي وصعود البريطاني
تشهد الساحة الإفريقية تحوّلات جذرية مع انسحاب دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو من المنظمة الفرانكوفونية، ما يضعف النفوذ الفرنسي التقليدي، في المقابل، تعزز بريطانيا حضورها عبر شراكات اقتصادية وأمنية، مستفيدةً من خروجها من الاتحاد الأوروبي، وقد تجلّى ذلك في مؤتمر لندن 2020 الذي جمع 50 دولة إفريقية، مؤكداً أولوية القارة في الاستراتيجية البريطانية الجديدة.
الأمن البحري: بوابة الهيمنة
تركّز لندن على تأمين الممرات البحرية الحيوية كخليج غينيا وباب المندب، حيث تعمل شركات كـ"بي بي" و"شل" على استخراج النفط، تدعم بريطانيا عمليات مكافحة القرصنة وتنظم مناورات مشتركة، بينما تتعقّد المنافسة مع وجود قوات روسية وصينية متزايد.
يتطلب تحويل الثروات المعدنية إلى محرّك تنموي إصلاحات جذرية، تعزيز الحوكمة، واستثمار العوائد في البنية التحتية والبحث العلمي، وإبرام شراكات متوازنة، النجاح في هذه المعادلة قد يرفع إفريقيا إلى مصافّ اللاعبين العالميين، بينما الفشل يعيد إنتاج حلقة الفقر والصراعات، هنا، تُختبر حكمة النخب الإفريقية في زمن تتقاطع فيه المصالح الدولية فوق أراضيها.
الاستراتيجيات الأمريكية المتناقضة وانعكاساتها على الساحة الإفريقية
في فبراير 2025، أثارت مذكرة دبلوماسية صادرة عن ماركو روبيو، مسؤول الشؤون الخارجية الأمريكي، جدلاً واسعاً بعد الإشارة إلى إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية تجاه القارة، نصّت الوثيقة على تحوّل التركيز نحو تعزيز العلاقات مع دول النصف الغربي للكرة الأرضية، وخاصة في أمريكا الوسطى والجنوبية، كجزء من سياسة "أمريكا أولاً" التي ميّزت عهد ترامب، هذا التوجّه يُنظر إليه كمحاولة لتحجيم الالتزامات الخارجية، مع ما يحمله من تداعيات على التوازنات الإقليمية في إفريقيا.
عواقب اقتصادية: حين تتحوّل العقوبات إلى سلاح ذي حدّين
أثار قرار الإدارة الأمريكية بوقف المساعدات المالية لجنوب إفريقيا عام 2024 ردود فعل متباينة، جاء القرار رداً على قانون إصلاح الأراضي الذي اعتبرته واشنطن انتهاكاً لحقوق الملكية، حيث خصّصت الإدارة السابقة 453 مليون دولار عبر برنامج "بيبفار" لمكافحة الإيدز، و60 مليوناً لدعم مشاريع التنمية، يرى محللون أن الانسحاب الأمريكي قد يفتح الباب لقوى أخرى لملء الفراغ، وخاصة في ظلّ النمو المتصاعد للنفوذ الصيني الذي ضخّ 10 مليارات دولار في قطاع التعدين الإفريقي خلال العام ذاته.
لم تقتصر تداعيات سياسة ترامب على الجانب الاقتصادي، فخفض ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من 8 مليارات دولار عام 2024 أثر سلباً على البرامج الصحية والتعليمية، تحذّر تقارير أممية من أن تقليص الدعم قد يُعزّز انتشار الجماعات المتطرفة، مثل "بوكو حرام" في غرب إفريقيا، والتي تعتمد على استغلال المناجم غير الشرعية لتمويل عملياتها، هنا، تبرز مفارقة تاريخية: كيف تُغذّي الثروات المعدنية الصراعات، بينما تُهمَل في بناء البنى التحتية المحلية.
إفريقيا في مواجهة "لعنة الجغرافيا السياسية"
تشكّل التنافسات الدولية على الموارد اختباراً لمقدرة النخب الإفريقية على إدارة الملفات الشائكة، فمن جهة، توفّر الصراعات بين القوى الكبرى فرصة لتحسين شروط العقود ورفع القيمة المضافة للموارد الخام، ومن جهة أخرى، تزيد هذه التنافسات من مخاطر الاستقطاب الداخلي، كما حدث في الكونغو الديمقراطية حيث تتقاطع مصالح الشركات الصينية والأمريكية مع أنشطة الميليشيات المحلية.
تبدو المعادلة الإفريقية معقدة، لكنّ نماذج ناجحة بدأت تظهر، مثل تجربة رواندا في تحويل الموارد المعدنية إلى استثمارات في البنى التحتية الذكية، يتطلّب النجاح خطوات جريئة:
- تعزيز الشفافية: عبر تبني مبادرات مثل "الشفافية في الصناعات الاستخراجية."(EITI)
- الاستثمار في التكنولوجيا: إنشاء مراكز أبحاث محلية للارتقاء بسلسلة القيمة.
- التكامل الإقليمي: تفعيل اتفاقيات التجارة الحرة بين الدول الإفريقية لخلق سوق موحّد.
- إصلاح التشريعات: مراجعة قوانين التعدين لضمان حصة عادلة للدول المضيفة.
القارة التي تحمل مفاتيح المستقبل
ليست المعادلة مجرد صراع على الموارد، بل هي اختبار لإرادة المجتمع الدولي في دعم نموذج تنموي عادل، بينما تسعى الصين لتعميق شبكة تحالفاتها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، وتتجه بريطانيا لتعويض خسائر ما بعد "بريكست"، تبرز إفريقيا كلاعب استراتيجي قادر على إعادة تشكيل خريطة القوى العالمية.
النجاح في تحويل "النعمة الجغرافية" إلى قوة جيواقتصادية سيعتمد على توازن دقيق بين استغلال الفرص الدولية وتحصين السيادة المحلية، هنا، قد تُكتب فصول جديدة من تاريخ القارة التي ظلّت لعقود ساحة للآخرين، وقد تصبح أخيراً سيدة مصيرها.