الوقت - بعد تراجع الولايات المتحدة عن حملتها العسكرية ضد اليمن وإعلانها وقف القصف، تتصاعد الأحاديث عن تراجعٍ مماثل في موقف واشنطن تجاه المقاومة الفلسطينية في غزة، وتشير التقارير إلى أن إدارة ترامب تخلّت عن شرطها السابق بنزع سلاح حماس كشرطٍ أساسي لتحقيق هدنة في غزة، في تحولٍ لافتٍ يُبرز تغيراً في نهج السياسة الأمريكية في خضم مفاوضات تهدف إلى إرساء تهدئة إنسانية في القطاع المحاصر.
حسب ما أوردته صحيفة “العربي الجديد”، أبلغ المفاوضون الأمريكيون الوسطاء المصريين أن مسألة نزع سلاح حماس يمكن تأجيلها إلى مرحلة لاحقة، بدلاً من أن تكون مطلباً فورياً في الاتفاق، المصادر الأمريكية أكدت أن هدنةً في غزة دون اشتراط نزع السلاح، باتت خياراً وارداً في المرحلة الأولى، ونقل مصدر مصري مطلع على المفاوضات أن المسؤولين الأمريكيين أعربوا عن استعدادهم لتأجيل ملف نزع السلاح إلى ما بعد تنفيذ أي اتفاقٍ للهدنة، قائلين إن التوصل إلى تهدئة إنسانية ممكن دون المساس بسلاح حماس في البداية، هذا التحول يمثّل انحرافاً كبيراً عن مواقف واشنطن السابقة تجاه الحركة.
لماذا غيّرت أمريكا مسارها؟
تأتي هذه التقارير بعد أقل من أسبوع على إعلان ترامب وقف الحرب في اليمن، ما يعكس تحولات متتالية في نهج السياسة الأمريكية تجاه قضايا المنطقة، ففي الأسبوع الماضي، صرّح ترامب بوضوح أنه لن يستأنف قصف اليمن، ويبدو الآن أن موقفه تجاه غزة وحماس قد شهد تحولاً مشابهاً.
السياسات الأمريكية السابقة تجاه غزة
كانت سياسات ترامب السابقة تجاه غزة تتجاوز مجرد نزع سلاح حماس، إذ طرح رؤى مثيرة للجدل تضمنت تهجيراً قسرياً لسكان القطاع، والسيطرة الكاملة عليه، هذه الخطة قوبلت برفض شديد من الحلفاء الأوروبيين والغربيين، بمن فيهم وزيرة الخارجية الألمانية “أنالينا بيربوك”، التي أعلنت رفض بلادها للمخطط الأمريكي الرامي إلى تهجير الفلسطينيين من غزة وفرض السيطرة عليه.
وفي مواجهة اعتراضات واسعة من الدول العربية والأوروبية على هذا المخطط، لجأت واشنطن إلى وضع شروط جديدة، منها جعل أي دعمٍ مالي لغزة مشروطاً بنزع سلاح حماس، وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن المساعدات ستتدفق إلى القطاع إذا أفرجت حماس عن الرهائن ونزعت سلاحها.
تحول الموقف الأمريكي
غير أن الإدارة الأمريكية اليوم تبدو أكثر مرونةً، إذ أعلنت بوضوح أنها تسعى لإرساء هدنة في غزة دون أن يكون نزع سلاح حماس شرطاً أساسياً، لم يعد هذا الملف يمثّل أولويةً كما كان في السابق، ما يعكس تحولاً في أولويات واشنطن.
تجربة اليمن: الدرس المستفاد
ربما كانت تجربة الولايات المتحدة في اليمن عاملاً رئيسياً وراء هذا التحول، فبعد أشهرٍ من القصف المكثف دون تحقيق نتائج ملموسة، أدركت واشنطن أن الحملات العسكرية في اليمن لم تؤتِ ثمارها، وخلصت إلى نتيجةٍ مشابهة بشأن غزة، لذلك، اتخذ ترامب خطوةً لافتةً بتغيير موقفه تجاه اليمن، معلناً وقف القصف، ومن ثم تحوّل تركيزه نحو إرساء هدنة في غزة حتى دون نزع سلاح حماس.
حرب بلا طائل في غزة
على مدار تسعة عشر شهراً من الحرب المستعرة التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة، لم تُحقق هذه المعارك ما كان يصبو إليه قادة الاحتلال، بل باتت تعكس عجزهم وفشلهم في تحقيق أهدافهم، وفي هذا السياق، أقرّ “رام بن باراك”، عضو الكنيست الإسرائيلي، الشهر الماضي بأن الحرب على غزة أضحت بلا جدوى، مُعترفاً بأن "إسرائيل" تقف على حافة الهزيمة، وأضاف قائلاً: “اقتصادنا ينهار، وعزلتنا الدولية تزداد تفاقماً، وجيشنا يُجبر على القتال لاستعادة مناطق سبق أن سيطر عليها، فيما يدفع المزيد من جنودنا حياتهم ثمناً لهذه المعارك”.
وفي السياق ذاته، وصف “يائير لابيد”، زعيم المعارضة الإسرائيلية، الحرب الدائرة بأنها عبثية، مُعتبراً استمرارها المصدر الرئيس للأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة في الأراضي المحتلة، وفي ظل هذا الواقع المتأزم، يبدو أن ترامب يسعى عبر محاولاته لإرساء هدنة في غزة إلى انتشال حليفه القديم، "إسرائيل"، من مستنقع الحرب التي أصبحت عبئاً ثقيلاً يهدد استقرارها.
هل يمكن القضاء على حماس؟
حين يُطرح سؤال القضاء على حماس، تتكشف أمامنا حقائق جوهرية تجعل الحديث عن إنهاء وجود هذه الحركة ضرباً من الوهم، وتُبرز أسباباً تُكرّس استمراريتها كقوة عصية على الانكسار:
حماس: كيان بيروقراطي متماسك
حماس، التي تدخل الآن عقدها الرابع، ليست مجرد حركة مقاومة عابرة، بل هي كيانٌ بيروقراطي متشابك الأبعاد، يجمع بين السياسي والعسكري والاجتماعي في منظومة متماسكة، هذه الفروع تعمل بتناغم مُتقن، لكل منها أدواره ومسؤولياته وهيكلياته الخاصة، هذا التنوع في التركيب أتاح للحركة أن تجمع بين تمثيل الفلسطينيين سياسياً، وبين الحفاظ على قدرتها العملياتية عبر تعويض خسائرها البشرية بسرعة فائقة.
وما يزيد من قوة حماس هو التناغم الفريد بين قيادتها الداخلية في غزة والخارجية خارج القطاع، ما يمنحها قدرةً استثنائيةً على تعزيز دعمها السياسي والدولي، وتوسيع نطاق نفوذها وتأثيرها.
جذورها الراسخة في المجتمع الفلسطيني
حماس ليست مجرد حركة مقاومة، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الفلسطيني، دعمها الشعبي الواسع يجعلها عصيةً على الإقصاء أو الاستبدال، فالحركة تلعب دوراً محورياً في حياة الفلسطينيين اليومية من خلال خدماتها الاجتماعية التي تُرسخ وجودها في قلب المجتمع.
وفي هذا السياق، يرى المحلل السياسي “خالد حروب” أن شعبية حماس ليست لغزاً يصعب فهمه، فهي تُجسّد “صوت الكرامة الفلسطينية”، وتُمثّل رمزاً للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وهذا الدعم الشعبي يُمكّنها من استقطاب المقاتلين، جمع الأموال، وإعادة بناء مواردها الحيوية، ما يُكرّس استمراريتها كقوة فاعلة في مواجهة الاحتلال.
تزايد شرعية حماس
على الرغم من الجهود الإسرائيلية المكثفة لتقويض حماس، بما في ذلك الاغتيالات الهادفة ضد قادتها، إلا أن هذه السياسات جاءت بنتائج عكسية عزّزت شرعية الحركة في أوساط الفلسطينيين، فكلما ارتفع عدد الشهداء في غزة، ازدادت شعبية حماس كرمزٍ للمقاومة الوحيدة التي تُدافع عن الشعب الفلسطيني أمام آلة الاحتلال.
ووفقاً لتقارير وزارة الصحة في غزة، فإن ستين بالمئة من الفلسطينيين أفادوا بأن أحد أفراد أسرهم قد استشهد، بينما قال ثمانون بالمئة إن أحد أفراد أسرهم استشهد أو أُصيب بجروح، هذه الأرقام تُبرز حجم المعاناة التي يعيشها سكان القطاع، حيث باتت حياتهم اليومية مرهونةً بالألم والنزوح، مع تهجير نحو 1.9 مليون شخص وانعدام الوصول إلى الاحتياجات الأساسية.
وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث السياسة واستطلاعات الرأي الفلسطيني أنه حتى نهاية شهر مايو، يرى 63% من الفلسطينيين أن "إسرائيل" هي المسؤولة عن المعاناة التي يعيشها سكان غزة حالياً، في حين أن 8% فقط يحمّلون حركة حماس مسؤولية ذلك، وفي ظل هذا الواقع المُظلم، تُعتبر حماس القوة الوحيدة التي تقف إلى جانب سكان غزة، ما عزّز مكانتها كرمزٍ للصمود والأمل.
قدرات حماس العسكرية: قوةٌ لا تتراجع
رغم الحصار الخانق والضغوط المتزايدة، لم تُظهر حماس أي علامات على تراجع قدراتها العسكرية، فقد استمرت الحركة في تنفيذ تكتيكاتها القتالية، بما في ذلك العمليات العسكرية المفاجئة والهجمات الصاروخية العابرة للحدود، وأثبتت أنها لا تزال تحتفظ بقدرتها على استهداف الأراضي المحتلة بصواريخها.
وفي الأسبوع الماضي، أُطلقت صافرات الإنذار في مستوطنة “سديروت” القريبة من قطاع غزة، ما يدل على أن حماس لا تزال قادرةً على إبقاء الاحتلال في حالة تأهب دائم، مستمرةً في ضرب أهداف داخل "إسرائيل"، بشكل يُؤكد فشل الاحتلال في تحييد قوتها العسكرية.