الوقت- في واحدة من أكثر الشهادات المروعة التي خرجت من قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، كشف جندي احتياط خدم في معتقل "سدي تيمان" الواقع في صحراء النقب عن تفاصيل صادمة لانتهاكات وحشية تُرتكب بحق الأسرى الفلسطينيين من قطاع غزة، شهادة هذا الجندي، التي نُشرت مؤخرًا في صحيفة "هآرتس" العبرية، لا تُعدّ حادثة فردية، بل تكشف عن سياسة ممنهجة ترتكبها الدولة العبرية داخل هذا المعسكر سيء السمعة، بمباركة المؤسسة العسكرية وتواطؤ الإعلام الإسرائيلي.
من معسكر ترحيل إلى مقبرة للأحياء
يقع معتقل "سدي تيمان" على بعد 30 كيلومترًا من مدينة بئر السبع في صحراء النقب، وقد أُسس في الأصل كقاعدة عسكرية خلال عملية "جناح النسر" في عام 1949، عندما رحّلت الوكالة اليهودية نحو 49 ألف يهودي يمني إلى "إسرائيل"، منذ ذلك الحين، استخدمته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لأغراض متعددة، أبرزها في الحربين على غزة عامي 2008 و2014 كموقع مؤقت لاحتجاز الأسرى الفلسطينيين، لكن مع اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّل سدي تيمان إلى ما وصفه أحد قادته بـ"المقبرة".
ليس هذا وصفًا مجازيًا، بل واقعًا يتجسد في شهادات الناجين والتقارير الحقوقية، فحسب الجندي الإسرائيلي، هناك أسرى دخلوا سدي تيمان أحياء وخرجوا منه جثثًا داخل أكياس سوداء، وأضاف: "المفاجئ اليوم أن يخرج معتقل حيًا، لا أن يموت داخله"، في إشارة إلى حجم القتل الممنهج الذي يحدث في هذا المعسكر.
سياسة التعذيب: من التجويع إلى العمليات دون تخدير
شهادة الجندي الاحتياطي كانت صادمة بكل المقاييس، لكنها لم تكن الأولى، ما يجعلها مميزة هو أنها جاءت من داخل الجهاز العسكري، وليست فقط من الضحايا أو المنظمات الحقوقية، قال الجندي إن المعتقلين الفلسطينيين، وهم في معظمهم مدنيون لا ينتمون لأي فصيل مسلح، كانوا يتعرضون لتعذيب يومي لا يقلّ فظاعة عن أساليب التعذيب في أشهر المعتقلات النازية.
روى الجندي مشاهدته لمعتقلين "يتغوطون ويتبولون على أنفسهم" لأنهم مُنعوا من استخدام دورات المياه، وذكر أن آخرين تُركوا لأيام دون طعام أو ماء، رغم إصابتهم بجروح خطيرة جراء الحرب. الأخطر من ذلك، بحسب شهادته، أن بعض المعتقلين خضعوا لعمليات جراحية دون تخدير، في انتهاك صارخ لكل القوانين الطبية والإنسانية.
تجريد إنساني ممنهج وعنف بلا حدود
المحتجزون في "سدي تيمان" لا يُعاملون كأسرى حرب ولا حتى كأسرى أمنيين، بل يُجردون من إنسانيتهم تمامًا، ذكر الجندي أن عمليات الاعتداء الجسدي، بما فيها الضرب المبرح والتحرش الجنسي، باتت جزءًا يوميًا من "روتين المعسكر". في إحدى الحوادث التي رواها، توفي معتقل فلسطيني أمامه نتيجة الإهمال الطبي المتعمد، دون أن يُحرّك أحد من الجنود ساكنًا.
وأضاف إن القادة العسكريين في المعسكر كانوا يعلمون بكل ما يجري، بل يشجعون عليه، فيما كان الإعلام الإسرائيلي يتعمد التغطية على هذه الجرائم أو تقديمها كحوادث فردية معزولة، "سدي تيمان لم يكن موقعًا للتوقيف، بل موقعًا للإبادة الجسدية والنفسية"، يقول الجندي.
تواطؤ القضاء والإعلام: مؤسسات دولة في خدمة الجريمة
رغم هذه الشهادات، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية في سبتمبر/أيلول الماضي طلب منظمات حقوقية بإغلاق المعتقل، مدعية أن "الدولة ملزمة باحترام القانون"، لكن الواقع على الأرض يُكذّب ذلك، فالانتهاكات الموثقة في سدي تيمان تُشكّل جرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي، ولا يمكن أن تُغتفر أو تُبرّر.
أما الإعلام الإسرائيلي، فقد اختار أن يصمت، بل يساهم في الجريمة من خلال التستر على الحقيقة، قال الجندي إن قناة "13" العبرية بثت مؤخرًا تقريرًا استقصائيًا اختزل كل ما يجري في المعسكر في "حالة فردية"، وتجاهل السياق الكامل لسياسة التعذيب والقتل، وأضاف: "الإعلام يعلم كل شيء، لكنه قرر أن يصمت، وبصمته يمنح الشرّ غطاء الاستمرار".
ضحايا بلا تهم
منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتقلت "إسرائيل" مئات الفلسطينيين من قطاع غزة، معظمهم من المدنيين، وأطلقت عليهم صفة "مقاتلين غير شرعيين"، وهي صيغة قانونية فضفاضة تتيح للجيش الإسرائيلي التنصّل من الالتزامات القانونية تجاه الأسرى، كثير من هؤلاء المعتقلين أُفرج عنهم لاحقًا بعد أن ثبت أنهم لم يشاركوا في أي أعمال قتالية، لكنهم خرجوا من المعتقل بأجساد منهكة ونفوس محطمة.
وقد أفادت تقارير بأن 36 معتقلًا على الأقل استشهدوا داخل المعتقل نتيجة التعذيب أو الإهمال الطبي، لكن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير، بالنظر إلى تعتيم السلطات الإسرائيلية ومنعها الوصول المستقل للمعتقل.
عقوبات شكلية وإفلات ممنهج من المحاسبة
في سابقة نادرة، حكم الجيش الإسرائيلي على أحد جنوده بالسجن لمدة 7 أشهر بتهمة تعذيب معتقلين فلسطينيين في سدي تيمان، لكن هذا الحكم لم يشمل مئات الجنود الآخرين الذين شاركوا في جرائم مماثلة، ما يؤكد أن الأمر لا يتعلق بحالات فردية، بل بمنظومة كاملة من العنف المُمنهج.
تقول منظمات حقوقية إن ما يحدث في سدي تيمان هو جزء من سياسة أوسع تنتهجها "إسرائيل" في تعاملها مع الفلسطينيين، سواء في السجون أو في الميدان، وتُظهر احتقارًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، مستفيدة من الحماية السياسية والدبلوماسية التي توفرها لها دول مثل الولايات المتحدة.
سدي تيمان... غوانتانامو "إسرائيل"
لم يكن من قبيل الصدفة أن يُطلق على سدي تيمان لقب "غوانتانامو إسرائيل"، فكما كان معتقل غوانتانامو رمزًا لانتهاك حقوق الإنسان بعد هجمات 11 سبتمبر، أصبح سدي تيمان رمزًا للعنف المؤسسي الإسرائيلي، يشتركان في استخدام نفس الأدوات: التعذيب الجسدي، العزل، التعتيم الإعلامي، وتجاهل المنظمات الدولية.
لكن ما يزيد من فظاعة ما يحدث في سدي تيمان هو أنه يأتي في سياق حرب إبادة جماعية يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، وفق ما وصفته تقارير أممية ومؤسسات حقوقية دولية، فالمعسكر لا يُمثل فقط مركزًا للاعتقال، بل امتدادًا للحرب الشاملة التي تشنها "إسرائيل" ضد كل مظاهر الحياة في القطاع المحاصر.
أين يقف العالم؟
رغم كل هذه الشهادات والتقارير، لا تزال الاستجابة الدولية دون الحد الأدنى. الأمم المتحدة لم تفتح تحقيقًا رسميًا في ما يحدث داخل سدي تيمان، ومحكمة الجنايات الدولية تواصل تباطؤها في اتخاذ خطوات عملية نحو محاسبة المسؤولين الإسرائيليين، أما الدول الغربية التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، فهي تلتزم الصمت، أو تُبرّر ممارسات الاحتلال باسم "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
وفي المقابل، تُواصل حكومة الاحتلال الاسرائيلي انتهاكاتها مستندة إلى هذا الصمت، وتدفع بالمعايير الدولية نحو مزيد من الانحدار، ما يهدد بفقدان الثقة في النظام العالمي بأسره، ويكرّس سياسة الإفلات من العقاب.
صوت من الداخل يفضح جرائم الدولة
إن شهادة جندي الاحتياط الإسرائيلي ليست مجرد رواية صادمة، بل صفعة للضمير العالمي الذي اختار الصمت، إنها تفتح نافذة على معتقلٍ يُدار بمنطق الإبادة، لا العدالة، وتفضح تواطؤ الإعلام والقضاء والجيش في تشكيل منظومة متكاملة من القمع.
ما يحدث في "سدي تيمان" ليس قضية داخلية إسرائيلية، بل جريمة ضد الإنسانية، تستوجب محاكمة دولية فورية، إن السكوت عن هذه الجرائم، هو مشاركة فيها، وأي تأخير في المحاسبة يعني مزيدًا من الضحايا الأبرياء.
يبقى السؤال: كم من المعتقلين يجب أن يموتوا داخل أكياس سوداء حتى يتحرّك الضمير العالمي؟ ومتى تتوقف "إسرائيل" عن استخدام السجون كمراكز قتل ببطء، في وضح النهار، وعلى مرأى من العالم؟