الوقت - في لحظة إقليمية ودولية بالغة الحساسية، اختارت الجزائر أن تسلك طريقًا وعرًا، لكنه ضروري من وجهة نظرها؛ طريق الدفاع الاستباقي، الذي بدأ بخطوة تشريعية مثيرة للجدل: قانون التعبئة العامة.
في مساء الأربعاء، وقف وزير العدل الجزائري، لطفي بوجمعة، أمام البرلمان ليعرض مشروع قانون قد يبدو تقنيًا في ظاهره، لكنه عميق الأثر في مضمونه السياسي والأمني، إنه قانون "التعبئة العامة"، الذي أقره مجلس الوزراء برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، يوم 20 أبريل/نيسان، وأحالته الحكومة إلى البرلمان للمصادقة عليه، وسط حالة من الترقب الشعبي والانقسام الإعلامي حول دلالاته، وتوقيته، ومآلاته.
ما بين النص والتأويل.. هل الجزائر على أعتاب حرب؟
منذ اللحظة الأولى لإعلان مشروع القانون، اشتعل الجدل في الشارع ووسائل الإعلام، فمصطلح "التعبئة العامة" لا يمكن فصله عن ذاكرة الحرب، أو عن سياقات الطوارئ، فما الذي يدفع الحكومة الجزائرية، الآن، لتفعيل هذا النص الدستوري، الذي ظل معلقًا منذ 2020، حين نصّ عليه الدستور الجديد في مادته 99، دون إطار قانوني واضح؟
على الورق، يبدو المشروع مجرد استكمال تشريعي لمنظومة الدفاع الوطني، وتنظيم لآلية نص عليها الدستور، لكنه في العمق، يعكس شعورًا متناميًا بالخطر الداهم، وهو ما تقرأه بوضوح في ديباجة المشروع نفسه، التي تؤكد أن التعبئة العامة تأتي "لمجابهة أي خطر محتمل يهدد استقرار البلاد، واستقلالها، وسلامتها الترابية".
خارطة التهديدات... لماذا الآن؟
ليس من باب المصادفة أن يأتي طرح القانون في لحظة مشحونة إقليميًا، فالجزائر، التي لطالما تبنت سياسة دفاعية صارمة، تجد نفسها اليوم في قلب دوامة إقليمية من التوترات والتهديدات:
من الغرب: علاقة مقطوعة مع المغرب منذ 2021، وتصعيد غير مسبوق، بلغ حد الاتهامات بالتجسس باستخدام برمجيات إسرائيلية، والتعاون العسكري مع تل أبيب الذي تعتبره الجزائر تهديدًا مباشرًا.
من الجنوب: أزمة دبلوماسية متفجرة مع مالي، بعد إسقاط الجزائر لطائرة مسيرة، اعتبرتها تهديدًا لحدودها، وردت باماكو بسحب سفيرها، متهمة الجزائر بـ"دعم الإرهاب".
من الشرق: الفوضى الأمنية في ليبيا، وتنامي دور الجماعات المسلحة، وتحول المناطق الحدودية إلى بؤر لتهريب السلاح وتسلل الإرهابيين.
وما بين هذه الجبهات، تقف الجزائر وحيدة، مستشعرة طوقًا من التهديدات، صاغته في وصف دقيق مجلة "الجيش" التابعة لوزارة الدفاع، حين كتبت: "إن المشهد واضح... ولا يحتاج إلى كثير من التحليل لندرك خبث نوايا أعداء الجزائر".
بين العقيدة الدفاعية والتحرك الاستباقي
رغم هذا الإحساس بالخطر، تؤكد الجزائر في خطابها الرسمي، أن قانون التعبئة العامة ليس إعلان حرب، بل هو تحرك استباقي لتحصين الداخل، فالرئيس تبون، حسب المشروع، هو وحده من يملك قرار إعلان التعبئة، بعد استشارة هيئات عليا، وفي حالات استثنائية فقط.
لكن المشروع يتجاوز التنظيم الإداري، ليطرح تصورًا متكاملًا لما يمكن أن يشبه اقتصاد حرب شامل، إذ ينص على انتقال أجهزة الدولة إلى وضعية استثنائية، تعبّأ فيها الموارد البشرية والمالية والاقتصادية لخدمة المجهود الحربي، وتُعطى الأولوية الكاملة لاحتياجات الجيش الوطني الشعبي.
قراءة سياسية... الرسالة إلى الداخل والخارج
بعيدًا عن التفاصيل القانونية، يحمل المشروع رسائل متعددة المستويات:
للداخل: أن الدولة مستعدة لكل الاحتمالات، وأنها تمسك بزمام المبادرة، ولا تنتظر أن تُملى عليها التهديدات.
للخارج: أن الجزائر لن تقف مكتوفة اليدين، وأن أي تهديد لسيادتها أو سلامة ترابها الوطني، سيُواجه بصرامة مؤسساتية، وليس فقط بالتصريحات.
الخبير السياسي، علي ربيج، شدد في حديثه للأناضول على أن المشروع "لا علاقة له بإعلان الحرب"، بل جاء متأخرًا لملء فراغ قانوني، لكنه يعكس، في توقيته، حرص الجزائر على رفع جاهزيتها، تحسبًا لتقلبات قد تكون أكثر حدة مستقبلاً.
سوابق في الذاكرة الجماعية
ليست هذه المرة الأولى التي تتطرق فيها الجزائر إلى التعبئة العامة، فقد سبق أن لجأت إليها في حرب الرمال ضد المغرب عام 1963، وكذلك خلال حربها الطويلة ضد الجماعات الإسلامية المسلحة في التسعينيات، حين استدعت جنود الاحتياط.
لكن هذه المرة مختلفة، فالسياق دولي مضطرب، والساحل الإفريقي أصبح موطئ قدم للجماعات الإرهابية والمرتزقة، والصراع المغربي الإسرائيلي بات يتخذ طابعًا استخباراتيًا وعسكريًا متسارعًا، بينما ليبيا تمثل خاصرة رخوة للمنطقة المغاربية بأكملها.
يبقى السؤال الكبير: هل نحن أمام بداية عسكرة للمشهد السياسي والمؤسساتي في الجزائر؟ أم إنها مجرد خطوة قانونية، لتجهيز الدولة دستوريًا في مواجهة زمن العواصف؟
الجواب يتوقف على تطورات الشهور المقبلة، وعلى ما إذا كانت هذه التعبئة القانونية ستبقى حبرًا على ورق، أم ستتحول إلى تعبئة ميدانية شاملة، تدفع البلاد نحو مواجهة قد تكون وشيكة، في منطقة تتآكل فيها الحدود بين السلم والحرب، وبين الدولة والجماعة، وبين التحالف والعداوة، ومهما كان الجواب، فإن الأكيد أن الجزائر، في هذا التوقيت، لا تشعر بالأمان.