الوقت- في قلب قطاع غزة، حيث يختلط صوت الطائرات الحربية بأنين الأطفال، تدق ساعة الحقيقة ناقوس خطر جديد، فبعد شهور من الحصار المتواصل والعدوان الهمجي الذي لم يرحم البشر ولا الحجر، يتهاوى آخر ما تبقى من مظاهر الحياة الإنسانية، هذه المرة، ليست صواريخ الموت وحدها هي ما يُهدد أرواح المدنيين، بل غياب الوقود الذي يُغذي المستشفيات، ويُشغّل سيارات الإسعاف، ويمنح الأمل الأخير لمن ينتظر إسعافًا أو علاجًا أو وجبة دافئة في ليلة شتوية باردة.
شريان الحياة يتوقف
أعلن الدفاع المدني في قطاع غزة بشكل رسمي عن نفاد الوقود الخاص بتشغيل مركباته في محافظات جنوب القطاع، الأمر الذي أدّى إلى توقف 8 من أصل 12 مركبة إطفاء وإنقاذ وإسعاف عن العمل، لم تعد سيارات الإسعاف قادرة على التحرك لنقل الجرحى أو إطفاء الحرائق أو إنقاذ المحاصرين تحت الأنقاض، أربع مركبات فقط تخدم مئات آلاف المواطنين في خضم كارثة إنسانية ممتدة منذ أكتوبر 2023.
وهذا يعني عمليًا أن مراكز الإيواء التي تعج بعشرات الآلاف من النازحين، لا يمكنها الاعتماد على استجابة سريعة في حال حدوث أي طارئ، من الحرائق، إلى القصف، إلى حالات الإغماء والولادة والمرض – كل ذلك بات رهينة أربع مركبات شبه معدومة الوقود، تسابق الزمن لإنقاذ أرواح في وضع مستحيل.
وحمّل الدفاع المدني الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن هذه الكارثة، مؤكدًا أن "الاستجابة الإنسانية باتت محدودة للغاية"، نتيجة استمرار الحرب والحصار الخانق على المعابر ومنع إدخال الوقود.
مجمع ناصر الطبي: قلب مهدد بالتوقف
في مشهد أكثر قتامة، حذّر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة من كارثة صحية وشيكة في مجمع ناصر الطبي، وهو المستشفى المركزي الوحيد المتبقي في محافظتي خان يونس ورفح بعد خروج مستشفى غزة الأوروبي عن الخدمة، ومع نفاد الوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء، فإن جميع أجهزة العناية المركزة، وغرف العمليات، وأقسام الطوارئ على وشك التوقف.
وقالت وزارة الصحة في تصريح رسمي إن استمرار هذا الوضع يعني "وفاة فورية لعشرات المرضى المنومين في أقسام العناية المركزة، وغرف الولادة، والحضانات الخاصة بالأطفال الخدّج"، وأضافت الوزارة إن انقطاع الكهرباء سيؤدي أيضًا إلى تعطل ثلاجات حفظ الأدوية واللقاحات، ما يجعل القطاع الصحي بأكمله قابلاً للانهيار خلال ساعات.
صرخة تحت الركام
لم يعد الحديث عن كارثة إنسانية مجرد خطاب إنشائي في نشرات الأخبار، أطفال غزة يتضوّرون جوعًا حرفيًا، بعد أن نفد الغذاء من أغلب مناطق القطاع، وبدأت علامات سوء التغذية الحاد تظهر على أجسادهم النحيلة، ووفقًا لتقارير أممية، فإن أكثر من 80% من الأطفال في شمال غزة يعانون من الجوع المستمر، في حين تزداد حالات الوفاة الناتجة عن الجوع ونقص التغذية.
الوقود هو عصب تشغيل المطابخ الميدانية، ومضخات المياه، ومولدات الطاقة في مراكز التغذية، وهو ما يجعل نفاده تهديدًا مزدوجًا للصحة والغذاء، فالطفل الذي لا يحصل على وجبته، ولا يُسعف عند تدهور حالته، ولا يجد سريرًا في مستشفى يعمل – هو ضحية لسياسة حصار ممنهج يقوده الاحتلال الإسرائيلي تحت سمع العالم وبصره.
أهمية الوقود في الوضع الراهن في غزة
يُستخدم الوقود في غزة لتشغيل كل ما يُبقي الحياة قائمة:
مولدات المستشفيات
مركبات الإسعاف والدفاع المدني
المخابز والمطابخ المركزية
آبار المياه ومحطات التحلية
شبكات الاتصالات ومحطات البث
مراكز إيواء النازحين واللاجئين
ومع فقدان الوقود، تتوقف هذه القطاعات تباعًا، ويتحوّل القطاع إلى منطقة موت صامت، وتُشير تقارير الدفاع المدني إلى أن الاستجابة لحالات الطوارئ تقلصت بنسبة 70%، وهو ما يعني أن أعدادًا كبيرة من المصابين لا تصلهم المساعدة في الوقت المناسب.
حصار مزدوج: غذاء ووقود
لا يخفى على أحد أن "إسرائيل" تستخدم الحصار كسلاح في هذه الحرب، لا يقل فتكًا عن القنابل والصواريخ، فمنع دخول الوقود والغذاء والدواء، لا يُفسّر إلا باعتباره سياسة عقاب جماعي ممنهجة.
ورغم النداءات المتكررة من الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية، إلا أن المعابر لا تزال مغلقة، والشاحنات الإنسانية ممنوعة من الدخول، ويُظهر هذا الإصرار على خنق القطاع بأكمله تصميمًا واضحًا على استخدام التجويع وانقطاع الخدمات كأسلحة حرب.
مسؤولية دولية في مهب الريح
في تصريح لافت، قال المكتب الإعلامي الحكومي: "نُحمل الاحتلال، والإدارة الأمريكية، والجهات الدولية ذات العلاقة، المسؤولية الكاملة عن أي كارثة قد تقع، وأي حالة وفاة يمكن أن تنجم عن انقطاع الكهرباء أو نفاد الوقود"، هذا التصريح يُحمّل المجتمع الدولي تبعات صمته وتواطؤه، ويكشف حجم الفجوة بين التصريحات الإنسانية والقرارات السياسية على الأرض.
إن القوانين الدولية والاتفاقيات الإنسانية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف، تُلزم سلطات الاحتلال بالسماح بتوفير الحاجات الأساسية للمدنيين في مناطق النزاع، لكن "إسرائيل" ترفض الالتزام بذلك، في غياب أي محاسبة أو ضغط حقيقي.
أطفال غزة بين الموت والجوع
يقول أحد الأطباء العاملين في مجمع ناصر الطبي:
"الطفل الذي لا يحصل على حليب أو علاج أو تدفئة، هو طفل محكوم عليه بالموت البطيء، لقد بدأنا بالفعل نُسجّل حالات وفاة نتيجة نقص التغذية وتفاقم الأمراض، ولا نملك حتى وسيلة لحفظ جثث الموتى في حال توقفت المولدات بشكل نهائي."
هذه الكلمات ليست وصفًا دراميًا بل واقعًا يوميًا يتكرر في كل زاوية من زوايا غزة، عشرات الأطفال يُصابون بالجفاف يوميًا، آلاف النساء يُنقلن إلى الولادة في ظروف غير إنسانية، والمرضى المزمنون – وخصوصًا مرضى القلب والسكري والفشل الكلوي – يعيشون على حافة الخطر.
ما الذي يمكن فعله؟
إن استمرار الوضع على هذا النحو يعني ببساطة إبادة بطيئة لسكان غزة، والمطلوب اليوم ليس فقط بيانات شجب واستنكار، بل تحركًا عمليًا لوقف المجزرة الصامتة:
فتح فوري للمعابر تحت إشراف دولي مباشر لإدخال الوقود والإمدادات الطبية.
ضغط سياسي حقيقي على "إسرائيل" لوقف استخدام الحصار كوسيلة حرب.
إرسال فرق طوارئ دولية لإعادة تشغيل المستشفيات والمرافق الحيوية.
حملة دولية إعلامية لفضح الانتهاكات وحشد الرأي العام العالمي.
تحقيق أممي مستقل في سياسة التجويع وقطع الوقود كجرائم محتملة ضد الإنسانية.
أزمة الوقود في غزة ليست شأنًا فلسطينيًا محليًا، بل اختباراً أخلاقياً وسياسياً للعالم بأسره، فإما أن تتحرك الإنسانية لوقف هذه الكارثة، أو تبقى شريكة في الجريمة بصمتها وتقاعسها.
أطفال غزة لا يريدون سوى ما يريده أي طفل في هذا العالم، وجبة طعام، سرير دافئ، حضن أم، وعلاج بسيط، أما أن يُحرموا من ذلك كله بسبب صراع سياسي وعسكري، فهذه وصمة عار لن تُمحى بسهولة.