الوقت - اكتست العلاقات الرسمية بين بغداد ودمشق منذ انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر 2023 حتى يومنا هذا، بألوان شتى من التقلبات والتحولات، ويبدو أن الموقف العراقي إزاء المشهد السوري يتخبط في دوامة من الارتباك والتردد.
فغالباً ما تُحجَب أخبار اللقاءات بين المسؤولين العراقيين والسوريين عن الأنظار، وتتأخر وسائل الإعلام العراقية في نشر وقائع لقاءات مسؤولي بلادها مع الحكام الجدد لسوريا إلى ما بعد أيام من انعقادها، فقد زار “حميد الشطري”، رئيس جهاز المخابرات العراقي، الأراضي السورية في أواخر عام 2023 والتقى بأحمد الشرع، دون أن تتناول وسائل الإعلام الرسمية العراقية هذا الحدث آنذاك، ولم يُكشف الستار عنه إلا بعد أن سرّبته المنابر الإعلامية السورية، لتتناقله بعدها نظيرتها العراقية.
وتكرر المشهد ذاته قبل أسبوعين حين التقى “أحمد الشرع”، حاكم سوريا الحالي، بـ"محمد شياع السوداني"، رئيس وزراء العراق في الدوحة، فقد ظلت أخبار هذا اللقاء طي الكتمان لمدة يومين كاملين، حتى ظهرت صور المسؤولَين العراقي والسوري في وسائل الإعلام السورية، وعندها فقط تسرب الخبر إلى الساحة العراقية.
إيفاد وفد أمني بدلاً من وفد سياسي
قبل يومين، حطَّ وفدٌ أمنيٌّ عراقيٌّ رحاله في دمشق برئاسة رئيس جهاز المخابرات الوطني وبتوجيهاتٍ من محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، للقاء أبي محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، ووفقاً لما أوردته وكالة الأنباء العراقية الرسمية، فقد جدَّد الوفد تأكيد دعم بغداد لوحدة سوريا وسلامة أراضيها، وذُكر أن الوفد تباحث مع الجانب السوري سُبُل تعزيز التعاون لمكافحة الإرهاب، وتأمين الحدود المشتركة.
تُعدُّ هذه المرة الأولى التي تُرسل فيها الحكومة العراقية وفداً رسمياً إلى الأراضي السورية، ما يُنبئ بأن المسؤولين العراقيين قد نفضوا عن أنفسهم غبار التحفظ الذي كان يكتنف موقفهم تجاه العلاقة مع حكام سوريا الجدد، وأن هذه العلاقات باتت تُتابع الآن بهمَّة أكبر من قِبَل بغداد، بيد أن إرسال وفدٍ أمنيٍّ بدلاً من وفدٍ سياسيٍّ برئاسة وزير الخارجية، يُشير إلى أن هواجس حكومة السوداني بشأن الملف السوري، تتمحور حول الهموم الأمنية أكثر من الاعتبارات السياسية.
كما أن إيفاد هذا الوفد حمل في طياته رسالةً إلى معارضي الحكومة في العراق، مفادها بأن بغداد ستظل متيقظةً لمخاطر الإرهاب وأمن الحدود، في حال تجديد أواصر العلاقات مع دمشق.
غضب العراقيين
رغم اللقاءات المتتالية بين قادة العراق وسوريا، فإن صدى الغضب الشعبي العراقي يكشف عن فجوة عميقة بين توجهات الحكومة وقناعات شريحة واسعة من النسيج المجتمعي، يُلقي المحتجون بثِقَل الاتهام على كاهل أحمد الشرع، واصفين إياه بـ"المسؤول عن إراقة دماء العراقيين"، ومعتبرين إياه شخصاً “يلاحقه القضاء العراقي”.
وأدلى “علي التميمي”، الخبير القانوني العراقي، بدلوه في قضية إصدار مذكرة توقيف بحق الشرع في العراق، مؤكداً أن هذا الأمر لم يحظَ بعد بتأكيد رسمي من المصادر العراقية المختصة، وينبغي التثبت من صحة إصدار هذا الحكم، غير أنه أشار إلى أن قادة الدول، من حيث المبدأ، يتمتعون بحصانة تامة إزاء القوانين الجنائية للدول الأخرى.
وأوضح لقناة الحرة أن هذه الحصانة لا تُمنح للشخص بذاته بل لمقام منصبه القيادي، وبغض النظر عن شرعيته الداخلية من عدمها، فإن من يتربعون على عروش السلطة في مختلف البلدان يتمتعون بهذه الحصانة بحكم مناصبهم السياسية.
ولفت التميمي الأنظار إلى وجود استثناء وحيد لحصانة قادة الدول، وذلك حين يكون زعيم دولة ما مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية، وتكون الدولة المضيفة من الموقعين على نظام روما الأساسي لعام 1998، في هذه الحالة، يقع على عاتق الدولة المضيفة الالتزام باعتقال هذا الرئيس وتسليمه إلى المحكمة الدولية وفقاً لنظام روما الأساسي، ومع ذلك، صرح “عقيل عباس”، الباحث العراقي، لصحيفة العرب الجديد بأنه لم تُسجل حتى الآن أي إدانة قانونية ضد أحمد الشرع، الحاكم الحالي لسوريا، في سجلات المحاكم العراقية.
أسباب غضب العراقيين
يسود اعتقاد لدى شريحة واسعة من العراقيين، بأن تنظيم القاعدة هو من يُمسك بزمام الحكم في سوريا حالياً، ويُعدُّ الماضي المتطرف لأحمد الشرع وإدراج اسمه في قوائم الإرهاب لدى دول عديدة، من الأسباب الجوهرية لاستعار نار الغضب في صدور الشعب العراقي تجاه الحاكم الحالي لسوريا.
وکتب “خالد الجيوسي”، الخبير العربي، في مقال نشرته صحيفة رأي اليوم، أن الرجل الأول في سوريا يقف في قفص الاتهام كمتهم رئيسي في العديد من قضايا الإرهاب التي ضربت العراق، وأن القوى العظمى قد رسمت له خطوطاً حمراء وحددت شروطاً صارمةً مقابل “تخفيف وطأة العقوبات”، متسائلاً: فما الذي دفع المسؤولين العراقيين للقائه دون أي شروط مسبقة؟ في الواقع، إن صفحات ماضي الشرع (أبو محمد الجولاني) ليست مما يمكن للشعب العراقي أو لقطاع عريض منه أن يطويه في زوايا النسيان.
من ناحية أخرى، رُفعت شكوى من نواب عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله يتهمون فيها الشرع بقيادة جماعات إرهابية أزهقت أرواح العراقيين، وصرح “يوسف الكلابي”، النائب عن الإطار التنسيقي في البرلمان العراقي، بأن الاحتجاج البرلماني ضد استقبال الجولاني رسمياً، جاء دفاعاً عن دماء الشهداء وآلام أسرهم ومعاناة الجرحى وكرامة الشعب العراقي وصوناً للضمير الوطني والأخلاقي والديني، وقد وقَّع على هذا الاحتجاج ما يربو على خمسين نائباً.
وبناءً على تصريحات أحمد الكلابي، يتضح جلياً أن عدداً كبيراً من أعضاء البرلمان العراقي يستشيطون غضباً من دعوة أحمد الشرع، كما أفصح “محمود المشهداني”، رئيس البرلمان العراقي، عن موقفه الرافض لاستضافة الحكومة العراقية للحاكم الحالي لسوريا، معرباً عن تفضيله ألا تطأ قدما الشرع أرض العراق حتى لا تنغرس شوكة الاستياء في قلوب الشيعة، وفي السياق ذاته، تقدم نواب البرلمان العراقي بطلب رسمي إلى المدعي العام في بغداد، للتحقيق واعتقال الشرع إذا ما وطئت قدماه الأراضي العراقية.
التهم الموجهة إلى الشرع
يوجّه العراقيون سهام الاتهام إلى الحاكم الحالي لسوريا، بالضلوع في تفجيرات دموية وأنشطة مسلحة أزهقت أرواح الأبرياء، فضلاً عن استخدامه وثائق مزورة خلال فترة إقامته السابقة على الأراضي العراقية، وتشير الوثائق إلى اسمه المستعار السابق “أبو محمد الجولاني”، وهو الاسم الذي اتخذه أحمد الشرع ستاراً خلال فترة قيادته لجماعة هيئة تحرير الشام المصنَّفة إرهابياً.
وبالتزامن مع الدعوة الرسمية للشرع لزيارة العراق، كشف موقع “صابرين نيوز” العراقي النقاب عن وثائق تتعلق بالاتهامات الموجهة ضد الرئيس المؤقت لسوريا، ومن بين هذه الوثائق المنشورة، ورقة تتعلق بهوية الشرع تحمل توقيع “أمجد مظفر حسين النعيمي” في سجن التاجي، وهو الاسم المستعار الذي تدثّر به الشرع إبان فترة اعتقاله في العراق.
المدافعون عن العلاقة مع أحمد الشرع
على الجانب الآخر، ترى بعض التيارات في العراق أن ما أقدم عليه السوداني بشأن لقائه مع الرئيس المؤقت لسوريا، كان تصرفاً ينمّ عن حنكة سياسية وبصيرة ثاقبة، ويعكس نهجاً براغماتياً واقعياً في التعامل مع المتغيرات الإقليمية.
وأكد “علي التميمي”، الخبير القانوني، في هذا السياق أن صلاحيات رئيس الوزراء منصوص عليها بوضوح في الدستور العراقي، ومن حقه أن يكون صاحب القرار النهائي في رسم ملامح العلاقة مع الحكومة الجديدة في سوريا، غير أن هذا الخبير العراقي لم يوضح كيف يمكن لرئيس الوزراء أن يغضّ الطرف عن صوت الشارع حين تعارض شريحة واسعة من المواطنين العراقيين استقبال الرئيس المؤقت لسوريا - وهو سؤال قد يعجز المسؤولون الحكوميون العراقيون عن تقديم إجابة شافية عليه.