الوقت - في خضم مشهد سياسي محتدم وضغوط شعبية متزايدة، كشفت تقارير بحثية حديثة عن تورط الحكومة الإسبانية في إبرام عشرات العقود مع شركات دفاع إسرائيلية منذ اندلاع الحرب على غزة، في خرق واضح للتعهدات الرسمية بوقف التعاون العسكري مع "إسرائيل".
ففي تقرير صدر يوم الجمعة عن مركز "ديلاس" للأبحاث الأمنية والدفاعية، أكد الباحثون أن الحكومة الإسبانية، رغم تعهدها العلني بتجميد صفقات السلاح مع "إسرائيل" عقب هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منحت ما لا يقل عن 46 عقدًا بقيمة تتجاوز 1.04 مليار يورو (نحو 1.2 مليار دولار) لشركات إسرائيلية، وقد استند التقرير إلى بيانات منشورة على منصة المناقصات العامة الرسمية.
انكشاف التناقضات الحكومية
وجاء هذا الكشف ليفضح تناقضًا صارخًا بين التصريحات السياسية والوقائع الفعلية، وخصوصًا أن رئيس الوزراء بيدرو سانشيز كان قد تبنى مواقف علنية حادة ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، معتبراً إياها اعتداءات غير مبررة ضد المدنيين.
وقال الباحث إدواردو ميلرو، أحد معدّي التقرير، لوكالة "فرانس برس": إن "ما ثبت بوضوح هو أن الحكومة كذبت... لم يكن هناك أي تعهد حقيقي، بل مجرد دعاية إعلامية".
وحسب مركز ديلاس، فإن بعض العقود يتعلق بصيانة أو تحديث معدات تم شراؤها سابقًا، لكن عددًا آخر منها يشمل صفقات جديدة لأسلحة مثل القاذفات والصواريخ، ما يعمق الاعتماد على صناعة توصف بأنها شريك في ارتكاب "جرائم إبادة جماعية" بحق الفلسطينيين.
جدل الصفقة الملغاة وتصعيد الضغوط
الجدل تصاعد بعد أن أعلنت الحكومة الإسبانية، الخميس الماضي، إلغاء صفقة لشراء 15 مليون رصاصة من شركة إسرائيلية بقيمة 6.6 ملايين يورو لمصلحة الحرس المدني، هذه الخطوة جاءت بعد عام من ضغوط متواصلة من الشارع الإسباني، وتهديدات أحزاب يسارية بالانسحاب من الائتلاف الحكومي إذا استمر التعاون العسكري مع "إسرائيل".
وقد رحبت "الشبكة الإسبانية للتضامن ضد الاحتلال في فلسطين" (RESCOP) بهذا الإلغاء واعتبرته "خطوة في الاتجاه الصحيح"، لكنها شددت على أن خطوة واحدة لا تكفي طالما لم يتم فرض حظر شامل على التعاون العسكري مع "إسرائيل".
وفي هذا السياق، أوضحت الناطقة باسم الشبكة، آنا سانشيز ميرا، أن الخطوات المتفرقة تظل رمزية ما لم تتحول إلى سياسة دولة حازمة تمنع أي شكل من أشكال التواطؤ مع ما يجري في غزة، الذي تصفه قطاعات واسعة من المجتمع الإسباني بـ"الإبادة الجماعية".
الحكومة تحت النار: اتهامات بالنفاق وضعف الالتزام
ورغم إعلان وزارة الداخلية الإسبانية التزامها بوقف شراء أو بيع الأسلحة الإسرائيلية، فقد أقرّت بأن بعض الشحنات التي أدرجت ضمن التقرير تعود لعقود سابقة، وأنه تم التعامل مع بعض المعدات الدفاعية، مثل السترات الواقية للرصاص، باعتبارها غير خاضعة لتعهدات حظر السلاح.
غير أن هذه التبريرات لم تقنع الكثيرين، حيث شدد الباحثون والنشطاء الحقوقيون على أن التعامل مع أي شركة إسرائيلية في هذا التوقيت يمثل تواطؤًا واضحًا مع ممارسات الاحتلال.
ولم تتأخر "إسرائيل" في الرد، إذ دانت وزارة الخارجية الإسرائيلية قرار إلغاء صفقة الرصاص، متهمة الحكومة الإسبانية بأنها "تضحي بالاعتبارات الأمنية لمصلحة أهداف سياسية"، ومؤكدة أن مدريد "تواصل الوقوف في الجانب الخطأ من التاريخ".
الشارع الإسباني يحشد قواه
على وقع هذه التطورات، تتواصل الدعوات إلى مظاهرات مركزية في مدريد، المقررة في العاشر من مايو/أيار المقبل، بهدف الضغط على الحكومة لفرض حظر شامل على تجارة الأسلحة مع "إسرائيل".
ويُذكر أن الشبكة الإسبانية للتضامن ضد الاحتلال، التي تأسست عام 2009 وتضم أكثر من 500 منظمة مدنية، تقود جهود التعبئة ضد السياسات الإسرائيلية في أوروبا.
مطالب تتجاوز إسبانيا
وفي حديثها للجزيرة نت، أكدت آنا سانشيز ميرا أن مطالبهم لا تقتصر على الحكومة الإسبانية فقط، بل تطال كل الحكومات الأوروبية، داعية إلى تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه ما يحدث في فلسطين.
وشددت على أن رفض الإبادة الجماعية ليس مسألة تضامن سياسي فحسب، بل التزاماً قانونياً تفرضه الاتفاقيات الدولية، منددة بما وصفته بـ"صمت القادة الأوروبيين" تجاه الجرائم المرتكبة، ومطالبة بتحرك شجاع وفعّال لإنهاء التواطؤ مع الاحتلال.
وبينما تواصل الحكومة الإسبانية محاولاتها لاحتواء الغضب الشعبي والانتقادات الحقوقية، يبدو أن الضغوط لن تتوقف عند حدود صفقة واحدة، بل ستستمر حتى تحقيق تغيير جذري في سياسة إسبانيا تجاه "إسرائيل"، وتحوّل المواقف المعلنة إلى التزامات فعلية تحترم القانون الدولي وتناصر حقوق الإنسان.