الوقت- بعد مرور أكثر من عام على انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في قطاع غزة، ما زال التركيز العالمي موجهاً نحو الكارثة الإنسانية في القطاع، غير أن ما يجري في الضفة الغربية في صمتٍ ثقيل، هو سلسلة متواصلة من الاعتداءات الصهيونية التي تهدف إلى التهجير والهدم والتوسع الاستيطاني، وتحويل المنطقة إلى مختبر لمشاريع الضم والتهويد.
استغل الكيان الإسرائيلي الحرب على غزة ليُوسّع من نطاق تدخله العسكري والأمني في الضفة الغربية، وفرض سيطرته عبر هجمات ممنهجة واعتقالات جماعية وهدم منازل الفلسطينيين تحت ذرائع واهية، في محاولة لخلق "حقائق على الأرض" وتغيير الطابع الديموغرافي لمصلحته.
من طوفان الأقصى إلى عسكرة الضفة: جبهة جديدة من المواجهة
انطلقت عملية "طوفان الأقصى" في الـ 7 من أكتوبر 2023، بهجوم مفاجئ للمقاومة الفلسطينية على المستوطنات المحيطة بغزة، ما أربك الحسابات الأمنية والعسكرية للكيان الصهيوني، ونتيجة لذلك، كثّف الاحتلال من وجوده العسكري في الضفة الغربية لمنع اندلاع انتفاضة متزامنة فيها.
نُشرت عشرات الكتائب والوحدات الخاصة في مدن جنين، نابلس، رام الله، طولكرم، الخليل، وأريحا، وشهدت هذه المناطق اقتحامات ليلية وعمليات اغتيال واعتقالات جماعية راح ضحيتها المئات، بينهم أطفال ونساء وأسرى سابقون وطلاب جامعات.
الاستيطان يتوسع على أنقاض المنازل الفلسطينية
واحدة من أكثر السياسات الإسرائيلية فتكاً تتمثل في هدم منازل الفلسطينيين بحجة "البناء دون ترخيص"، في حين ترفض سلطات الاحتلال منح الفلسطينيين التراخيص أساساً، ووفقاً لتقارير حقوقية، هدمت قوات الاحتلال خلال الأشهر الأخيرة أكثر من 250 منزلاً ومنشأة في الضفة.
في نعلين غرب رام الله، قامت جرافات الاحتلال بهدم منزلين، بينما شهدت مدينة الخليل جنوب الضفة عمليات هدم أخرى، وتزامناً مع هذه الجرائم، صادقت لجان التخطيط الإسرائيلية على مشاريع استيطانية جديدة في مناطق "C" وفي محيط القدس المحتلة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
الضفة الغربية... مهد المقاومة ومنبع الانتفاضات الفلسطينية
لم تكن الضفة الغربية يوماً مجرد ساحة خلفية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بل شكلت على الدوام القلب النابض للمقاومة الشعبية والمسلحة ضد الاحتلال، وكانت مهد الانتفاضتين العظيمتين اللتين غيّرتا وجه التاريخ الفلسطيني.
ففي العام 1987، انطلقت من مخيمات وقرى ومدن الضفة الغربية شرارة الانتفاضة الأولى أو "انتفاضة الحجارة"، حيث واجه الشعب الفلسطيني آلة الاحتلال بالحجارة والإرادة، في مشهد ألهم العالم وأعاد وضع القضية الفلسطينية على رأس أولويات العالم.
ثم جاءت الانتفاضة الثانية عام 2000، بعد اقتحام أريئيل شارون للمسجد الأقصى، لتنطلق مجدداً من مدن الضفة، وخصوصاً نابلس وجنين ورام الله، ولتتحول إلى مقاومة مسلحة شرسة هزّت الأمن الإسرائيلي في العمق، وأسقطت أوهام التسوية السياسية التي روّجت لها اتفاقيات أوسلو.
نضال الضفة الغربية... إرث مقاوم ممتد
سُجِّلت في الضفة الغربية أعظم معارك الكفاح الفلسطيني، من معركة الكرامة عام 1968 التي خاضها الفدائيون على حدود أريحا، إلى ملحمة مخيم جنين عام 2002، حيث واجه المقاومون الفلسطينيون بأدوات متواضعة آلة حرب صهيونية ضخمة.
وقد خرج من الضفة قادة بارزون في تاريخ المقاومة، منهم الشيخ أحمد ياسين، وعبد الله البرغوثي، ومروان البرغوثي، وغيرهم ممن سطّروا بدمائهم وجهادهم صفحات مشرقة من نضال الشعب الفلسطيني.
الضفة ليست فقط مكاناً للمواجهة، بل هي رمز للصمود والكرامة الوطنية، حيث يزرع الفلاح الفلسطيني أرضه رغم مصادرة الأراضي، ويبني بيته رغم تهديدات الهدم، ويتمسك بحق العودة رغم كل محاولات الطمس والتهجير.
سياسات التهويد والاستيطان... معركة هوية ووجود
الضفة الغربية تواجه منذ عقود مشروعاً صهيونياً ممنهجاً لتهويد الأرض والهوية، فقد أقامت "إسرائيل" مئات المستوطنات والبؤر الاستيطانية غير الشرعية فوق أراضي الفلسطينيين، وخصوصاً في مناطق القدس والخليل وبيت لحم ونابلس.
وتُنفّذ سلطات الاحتلال سياسة "الضم الزاحف" من خلال السيطرة على الأراضي الزراعية، وبناء الجدار العازل، وعزل القرى، وهدم البيوت، ومنع منح التراخيص، وتقييد حرية الحركة، الهدف هو تحويل الضفة إلى كانتونات معزولة، والقضاء على إمكانية إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
لكن، وعلى الرغم من هذه السياسات القمعية، تُثبت الضفة الغربية يوماً بعد يوم أنها عصيّة على الكسر، وأنها قادرة على توليد موجات جديدة من المقاومة، متكئة على تاريخ نضالي طويل، وعلى إرادة شعب لا يعرف الاستسلام.
حماس: هذا مخطط صهيوني ممنهج للضم والتهويد
رداً على هذه الاعتداءات، أصدرت حركة حماس بياناً قالت فيه:
"إن عمليات الهدم في رام الله والخليل تأتي في سياق مخططات الاحتلال لضم الضفة الغربية وتهويدها بالقوة، وهي سياسة فاشية متواصلة ضمن الحرب الإجرامية ضد شعبنا في غزة والضفة."
وأضاف البيان إن "هذه السياسات تمثل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي وتستدعي تحركاً دولياً فورياً لمحاكمة قادة الاحتلال على جرائمهم"، مؤكداً أن "كل الشعب الفلسطيني والقوى الوطنية والإسلامية مدعوون لتصعيد المقاومة والتمسك بالحقوق الوطنية".
الشرعية الدولية صامتة.. والاحتلال مستمر
ينص القانون الدولي، وخصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة، على عدم جواز تدمير ممتلكات السكان تحت الاحتلال أو نقلهم قسراً، رغم ذلك، تستمر "إسرائيل" في بناء المستوطنات، وهدم المنازل، وتهجير السكان، دون أي محاسبة حقيقية.
الولايات المتحدة منعت مراراً صدور قرارات أممية تدين هذه السياسات عبر الفيتو، فيما تستمر الدول الأوروبية في علاقاتها التجارية والعسكرية مع تل أبيب، ما يُفسَّر كدعم ضمني لجرائم الاحتلال.
السلطة الفلسطينية: موقف باهت وتساؤلات متصاعدة
في ظل هذا التصعيد، تبرز تساؤلات حول دور السلطة الفلسطينية، حيث يتهمها كثير من الفلسطينيين بالتواطؤ عبر استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال، ما يقوّض الجهود الشعبية والمقاومة في الضفة.
السلطة تبدو غير قادرة أو غير راغبة في مواجهة هذه الممارسات، ما يزيد من فجوة الثقة بينها وبين الشارع الفلسطيني.
رغم أنّ الأنظار مشدودة إلى غزة، إلا أن مستقبل فلسطين يُرسم في الضفة الغربية، "إسرائيل" تحاول فرض وقائع لا رجعة فيها عبر القوة، لكن المقاومة الشعبية، وتصاعد الوعي العالمي، وتحركات الشعوب الحرة، تشير إلى أن مشروع الاحتلال محكوم عليه بالفشل، ولو بعد حين.
الضفة الغربية، رغم ما تتعرض له من هدم وتنكيل وتهجير، تبقى عصيّة على الانكسار، وهي بانتظار لحظة التحول التي تعيد صياغة معادلة الصراع وتفرض على العالم إعادة النظر في صمته المستمر.