الوقت- في سجون الاحتلال الإسرائيلي، لا تنتهي معاناة الفلسطينيين عند لحظة الاعتقال، بل تبدأ رحلة قاسية من التعذيب الجسدي والإهمال الطبي والتنكيل النفسي، في ما يشبه سياسة قتل بطيء تُنفَّذ بدم بارد وبغطاء قانوني زائف، لا تُعدّ حالات الوفاة بين الأسرى الفلسطينيين نتيجة حوادث فردية أو أخطاء طبية، بل هي جزء من نمط ممنهج يفضح بنية الاحتلال الأمنية والقضائية، التي تتعامل مع الأسير الفلسطيني كهدف قابل للتصفية البطيئة بعيدًا عن كاميرات الإعلام ومساءلة القانون الدولي، وفي ظل صمت المجتمع الدولي، يتعمّق هذا النهج ليصبح أداة ضغط وعقاب جماعي يهدد حياة آلاف الأسرى خلف القضبان.
وفي ظل ذلك فإن هذه الانتهاكات المتصاعدة، التي أدت إلى استشهاد 64 أسيرا خلال عام ونصف عام فقط، ليست سوى جزء من سياسات إسرائيلية موسعة تهدف إلى تحطيم إرادة الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته عبر معاقبة رموزه "الأسرى" وعزلهم جسديا ونفسيا.
سجون الاحتلال: ساحات حرب لا تقل ضراوة
الأسير المحرر نائل البرغوثي، عميد الأسرى الفلسطينيين، عبّر عن هذه الحقيقة بوضوح عندما وصف ما يجري اليوم في السجون الإسرائيلية بأنه "قتل بطيء"، مؤكداً أن الخوف الإسرائيلي من الأسير لا يقل عن الخوف من المقاوم، لأن كليهما يشكل إخفاقًا صارخًا لمنظومة الاحتلال في كسر إرادة الفلسطينيين.
ويضيف البرغوثي إن تجربة الاعتقال الطويلة كشفت له أن كل تفاصيل الحياة في المعتقل تخضع لحسابات دقيقة، بدءًا من التغذية التي وصفها بأنها "مدروسة لتجويع منهجي"، وُضعت بإشراف خبراء في علم التغذية والتشريح النفسي لإضعاف الأسير بشكل تدريجي، وصولًا إلى الإهمال الطبي المتعمد الذي يجعل من الأمراض البسيطة وسيلة فتاكة.
تجويع، تسميم، وإهمال قاتل
لا يتحدث البرغوثي من فراغ، فالتقارير الحقوقية الفلسطينية تؤكد أن الاحتلال انتهج منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 سياسة تجويع منظمة بحق الأسرى، ترافقت مع تفشي الأمراض الجلدية، والحرمان من الدواء، والتعرض للتعذيب الجسدي، هذه الظروف تسببت في استشهاد العشرات من الأسرى، وسط تكتم إسرائيلي حول عددهم وهوياتهم، في إطار سياسة "الإخفاء القسري".
ويحذر البرغوثي من أن الانتهاكات تجاوزت الحرمان من الطعام أو الدواء، لتصل إلى استخدام السم في الطعام، كما حدث في سجن شطة، حيث أُصيب العشرات من الأسرى بتسمم حاد، كما يتحدث عن استخدام الكلاب الهجومية المستوردة ضمن عمليات الاقتحام والضرب المبرح، في مشهد يختلط فيه التعذيب الجسدي بالإذلال النفسي بشكل ممنهج.
أرقام صادمة وسط تعتيم شامل
حسب نادي الأسير الفلسطيني، فإن عدد المعتقلين تجاوز 10,000 أسير حتى مطلع أبريل/نيسان الجاري، من بينهم 400 طفل و30 أسيرة، إلا أن ما يجري مع أسرى غزة يظل في طيّ المجهول، بفعل التعتيم الإعلامي والأمني الكامل الذي تفرضه سلطات الاحتلال، في تجاهل صريح لأبسط القواعد القانونية الدولية.
وجه آخر للفصل العنصري والقضاء المتواطئ
الدكتور وليام شاباس، أستاذ القانون الدولي والرئيس السابق للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وصف منظومة الاعتقال الإسرائيلية بأنها "تجسيد لأسوأ ممارسات الأنظمة الديكتاتورية"، واعتبر أن ارتفاع أعداد الوفيات في السجون الإسرائيلية ليس حادثًا عابرًا، بل نتيجة مباشرة لطبيعة النظام الوحشي السائد.
وأشار شاباس إلى أن الاعتقال الإداري -الذي يشمل أكثر من 3,500 فلسطيني بينهم نساء وأطفال– يمثل خرقًا فاضحًا للمواثيق الدولية، أما النظام القضائي الإسرائيلي، فهو حسب شاباس انعكاس حقيقي لنظام الفصل العنصري، حيث تُطبق القوانين على الفلسطينيين بمعايير تختلف كليًا عن تلك التي تُطبّق على اليهود داخل الأراضي المحتلة وخارجها.
قضاء الاحتلال: شريك مباشر في الجريمة
البرغوثي نفسه وصف الجهاز القضائي الإسرائيلي بأنه "متواطئ بالكامل"، مؤكداً أن القضاة لا يكتفون بتبرير انتهاكات السجانين، بل يشاركون في قرارات العقاب الجماعي، ويتغاضون عن جرائم التسميم والتعذيب، وحتى الاعتداءات الجنسية التي تحدث داخل المعتقلات، حسب شهادات العديد من الأسرى.
الحرب الانتقامية على الأسرى: من الجوع إلى الزنازين السرية
أصبح واضحاً أن ما يجري داخل السجون هو "حرب انتقامية" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فمنذ اندلاع الحرب على غزة، اقتحمت وحدات خاصة إسرائيلية أقسام المعتقلات بالسلاح الحي، واعتدت بوحشية على الأسرى دون تمييز.
وشملت العقوبات كل تفاصيل الحياة اليومية: من مصادرة الملابس الشخصية ومنع الزيارات العائلية، إلى تقليص الوجبات الغذائية وإجبار الأسرى على النوم دون أغطية، ما أدى إلى فقدان المئات لوزنهم وإصابة الغالبية بأمراض جلدية خطيرة كالجرب.
كما قام الاحتلال مؤخراً بافتتاح ما يُشبه "السجون السرية"، ومنها أقسام جديدة تحت الأرض في سجن رامون، ما يفتح الباب أمام مزيد من الانتهاكات بعيداً عن أي رقابة.
وسيلة إرهاب وتفتيت للمجتمع الفلسطيني
الهدف من كل هذه الإجراءات، ليس فقط كسر الأسرى، بل إرهاب المجتمع الفلسطيني بأسره، فالاعتقال أصبح وسيلة ممنهجة لإضعاف العائلات وتفتيت البنية الاجتماعية، منذ السابع من أكتوبر، تم اعتقال أكثر من 16 ألف فلسطيني، بينهم 1,300 طفل و500 امرأة، بينما استشهد أكثر من 900 فلسطيني في الضفة الغربية وحدها خلال الفترة ذاتها.
من جهة أخرى لا يكتفي الاحتلال بقتل الفلسطيني، بل يستمر في التنكيل به حتى بعد استشهاده، من خلال احتجاز جثامين الشهداء في "مقابر الأرقام"، ومنع ذويهم من دفنهم.
غياب العدالة الدولية: شراكة ضمنية في الجريمة
ما يزيد من فداحة الجرائم المرتكبة، هو الصمت الدولي أو التواطؤ المقنّع معها، فبينما تُحاصر المؤسسات الحقوقية الفلسطينية وتُمنع من الوصول إلى السجون، غابت منظمات دولية كالصليب الأحمر تقريبًا عن المشهد، ولم يُسجَّل أي موقف حازم من الأمم المتحدة أو الهيئات القضائية الدولية.
هذا الصمت لا يبرر فقط الانتهاكات، بل يمنحها شرعية ضمنية، في مشهد يُذكّر بما كان يحدث في جنوب أفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري، بل ربما أسوأ من ذلك، نظرًا لاستخدام الأدوات الحديثة في التعذيب والسيطرة.
ختام القول، الأسرى ليسوا مجرد أرقام
في الزنازين المظلمة والمغلقة بإحكام، بعيدًا عن أعين الكاميرات وأروقة المحاكم، تدور فصول مأساة صامتة بحق آلاف الأسرى الفلسطينيين، حيث لا تتجلى ممارسات الاحتلال الإسرائيلي كمجرد انتهاكات فردية، بل كسياسة متكاملة الأركان تهدف إلى إخماد ما تبقى من إرادة هؤلاء المعتقلين، إن لم يكن جسديًا فبالقتل البطيء.
ما يجري في سجون الاحتلال الإسرائيلي ليس ملفًا إنسانيًا عابرًا، بل جبهة مواجهة مفتوحة بين الاحتلال والمقاومة، الأسرى الفلسطينيون لا يُعذبون لأنهم مجرمون، بل لأنهم يُجسّدون الكرامة الوطنية، ويدفعون ثمن تمسكهم بحقهم في الحرية، والقتل البطيء الذي يُمارس بحقهم هو وجه آخر للاحتلال، وجهٌ لا يختلف في دمويته عن القصف أو التهجير.
ولعل السؤال الأهم: إلى متى سيظل العالم يتعامل مع هذه الجرائم كأحداث ثانوية؟ ومتى ستُوضع "إسرائيل" في قفص الاتهام لا في مقاعد الدعم؟