الوقت- في ظل الحرب المتواصلة على قطاع غزة، بدأت تتكشف فصول جديدة من الانتهاكات الإسرائيلية التي يتعرض لها الفلسطينيون، ليس فقط في ميادين القتال، بل خلف جدران السجون ومعسكرات الاعتقال. فقد أفاد عدد من المعتقلين الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم مؤخراً وعادوا إلى غزة بتعرضهم لأساليب وحشية من التعذيب وسوء المعاملة داخل مراكز الاحتجاز الإسرائيلية، وتأتي هذه الشهادات لتؤكد ما وثقته منظمات حقوقية دولية مراراً عن التجاوزات التي تمارسها سلطات الاحتلال، لكنها تكشف أيضاً عن تطورات مقلقة، مثل استخدام مواد كيماوية مجهولة في تعذيب الأسرى، ما يفتح باب التساؤل حول طبيعة هذه المواد وآثارها طويلة الأمد على الضحايا.
من بين الشهادات التي أثارت الرأي العام، ما رواه الأسير المحرر أبو طويلة، الذي وصف ما تعرض له داخل المعتقلات الإسرائيلية بأنه "عذاب ممنهج يهدف إلى إذلال الإنسان الفلسطيني وكسر إرادته"، وأشار إلى تعريضه وأسرى آخرين للضرب المبرح، والإهمال الطبي، والتجريد من الملابس في ظروف مناخية قاسية، بالإضافة إلى رش أجسادهم بمواد كيماوية أدت إلى حروق جلدية وصعوبات تنفسية، دون أي تفسير أو رعاية طبية لاحقة.
هذه الممارسات، التي تمتد من مراكز الاعتقال المؤقتة إلى السجون المركزية، تُسلط الضوء على منهجية التعذيب التي تتبعها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بمشاركة موظفي السجون وجنود الاحتلال، في خرق واضح للقوانين الدولية واتفاقيات جنيف، وتضاف إلى سلسلة التقارير الموثقة التي تتحدث عن الثكنات العسكرية التي تحولت إلى مسالخ بشرية تُمارَس فيها صنوف من التعذيب الجسدي والنفسي، بعيداً عن أعين الإعلام والرقابة الحقوقية.
إن شهادات الأسرى العائدين، وعلى رأسهم أبو طويلة، لا تمثل مجرد قصص فردية، بل تعكس سياسة ممنهجة تستوجب فتح تحقيق دولي عاجل ومحاسبة المسؤولين عنها أمام المحاكم المختصة.
"أحرقوني بالحمض والعطر": شهادات مروّعة عن التعذيب الكيماوي في سجون الاحتلال
في الوقت الذي لا تزال فيه آلة الحرب الإسرائيلية تحصد أرواح الفلسطينيين في قطاع غزة، يكشف بعض من كُتب لهم النجاة من أقبية السجون الإسرائيلية جانبًا آخر من الجريمة، بعيدًا عن صخب المعارك، لكن أكثر فظاعة وهمجية، شهادات المعتقلين الفلسطينيين المفرج عنهم مؤخرًا، وعلى رأسهم الأسير المحرر محمد أبو طويلة، تكشف عن تعذيب ممنهج، بلغ حد استخدام مواد كيميائية حارقة ضد أجساد المعتقلين، في سلوك يصنف ضمن جرائم الحرب والانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني.
اعتقال ميداني.. وتعذيب في الظل
محمد أبو طويلة (29 عامًا)، وهو مهندس ميكانيكي من حي الشجاعية شرق غزة، كان من بين من اختُطفوا على يد جنود الاحتلال خلال اقتحامهم لمجمع مستشفى الشفاء في مارس/آذار 2024، لم يُحتجز في سجن عادي بدايةً، بل نُقل إلى موقع عسكري مؤقت حيث خضع لتعذيب ميداني قاسٍ استمر ثلاثة أيام قبل ترحيله إلى معتقل "سدي تيمان" سيء السمعة، القريب من بئر السبع.
يروي أبو طويلة لحظة بداية العذاب: "سكبوا على جسدي مواد حارقة مثل الكلور وحمض الكبريتيك، ثم استخدموا معطر الجو وولّاعة لإشعال النار في جسدي... اشتعلت النيران في ظهري، والدخان كان يتصاعد مني، شعرتُ أني كالحيوان، أركض لإطفاء النار".
لم يكن ذلك تعذيبًا جسديًا فقط، بل امتهاناً للكرامة، وتلذذاً بالألم.
أطباء يشاركون في الجريمة
في معتقل "سدي تيمان"، حُرم محمد من أدنى حقوقه كبشر ومريض، يقول إن علاجه اقتصر على مستشفى ميداني داخل القاعدة العسكرية، حيث تم تكبيله عاريًا إلى السرير، ومنحه حفاضات بدلاً من السماح له باستخدام المرحاض، يُذكر أن طواقم طبية إسرائيلية كانت قد أكدت في تقارير سابقة لـBBC أن هذا النوع من المعاملة أصبح "روتينيًا" داخل المعتقل.
وفي هذا السياق، عالج طبيب عيون فلسطيني أبو طويلة بعد الإفراج عنه، مؤكدًا وجود حرق كيميائي في عينه اليسرى أدى إلى تلف الجلد المحيط بها وضعف دائم في الرؤية، كما أيّد أطباء بريطانيون هذه الرواية بعد اطلاعهم على الصور وتقارير الإصابة، قائلين إنها تتطابق مع ما ورد في شهادته من تعرض لمواد كيميائية.
ليس مجرد استثناء
قصة أبو طويلة ليست استثناءً بل واحدة من عشرات، إن لم يكن مئات القصص التي بدأت تتكشف تدريجيًا بعد الإفراج عن المعتقلين ضمن صفقة تبادل تمت في فبراير/شباط 2025.
حمد الدحدوح، معتقل آخر من غزة، تحدث تعرضه للضرب المبرح على الرأس والمناطق الحساسة، ما أدى إلى كسر في القفص الصدري وتلف مؤقت في الظهر والأذن، كما تحدث عن استخدام الصعق الكهربائي، والكلاب، والمسدسات الصاعقة كأدوات تعذيب داخل الثكنات العسكرية.
ويقول: "كانوا يجبروننا على الجلوس على الركب من الخامسة صباحاً حتى العاشرة مساءً، كنا مقيدي الأيدي ومعصوبي الأعين طوال الوقت".
آثار لا تمحى
بعد الإفراج عنه في الـ15 من فبراير/شباط، عاد أبو طويلة إلى غزة بجسد مثقل بالحروق، وعين متضررة، ونفس منكسرة، يقول: "لا أستطيع تحمل حرارة الشمس ولا ضوء النهار، أستيقظ من النوم بسبب الألم، كأن النار ما زالت مشتعلة في ظهري".
أصبح عاجزًا عن ممارسة عمله كمهندس ميكانيكي، يعيش في ظل المرض، والبطالة، والحرب المستمرة، وسط بيئة تفتقر لأدنى مقومات العلاج النفسي أو التأهيل الجسدي لضحايا التعذيب.
أدلة على جريمة ممنهجة
تتقاطع شهادة أبو طويلة مع تقارير لمراكز حقوقية فلسطينية ودولية، تتحدث عن اعتقالات جماعية من قطاع غزة عقب الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، واختفاءات قسرية، وتعذيب شديد طال الرجال والنساء، شمل اعتداءات جسدية وجنسية.
الانتهاكات لا تقتصر على الجانب الفردي، بل تشير إلى سياسة ممنهجة يتورط فيها جنود ومحققون وأطباء داخل منظومة الاعتقال الإسرائيلية، وتتجاهل السلطات الإسرائيلية هذه الشهادات، ولم ترد على أي من الاستفسارات التي طرحتها وسائل الإعلام الدولية، ومنها هيئة الإذاعة البريطانية.
دعوات لتحقيق دولي
مع تزايد الشهادات المروعة، تبرز دعوات ملحة من منظمات حقوق الإنسان لفتح تحقيق دولي مستقل حول استخدام المواد الكيميائية في تعذيب الأسرى الفلسطينيين، وهو ما يشكل جريمة حرب بموجب اتفاقية جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب.
ورغم أن المجتمع الدولي يكتفي حتى الآن بالإدانة اللفظية، فإن قصصًا مثل قصة محمد أبو طويلة تستحق أن تكون جرس إنذار يُحرّك الضمير الإنساني ويطالب بالعدالة والمحاسبة، لا بالتجاهل والصمت.
نداء لضمير العالم
إن ما تعرّض له محمد أبو طويلة، وعشرات الأسرى الفلسطينيين قبله وبعده، ليس مجرد "حالة فردية" أو "تجاوزات معزولة"، بل جزء من نظام متكامل من القمع والتعذيب تمارسه "إسرائيل" داخل سجونها ومعسكراتها، بعيدًا عن الكاميرات والعدسات، وأحيانًا بتواطؤ من الطواقم الطبية ومباركة أمنية عليا.
استخدام المواد الكيميائية الحارقة في التعذيب، والتجريد من الإنسانية، والحرمان من العلاج، والتنكيل النفسي والجسدي، كلها تُشكّل جرائم لا تسقط بالتقادم، ويجب أن تُحال إلى محكمة الجنايات الدولية.
إن صمت المجتمع الدولي، وازدواجية المعايير في التعامل مع حقوق الإنسان، يمنحان الاحتلال ضوءًا أخضر للاستمرار في هذه الجرائم، ومن هنا، فإننا نُحمّل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، ومنظمة الصليب الأحمر الدولي، مسؤولية التحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها.
هذه ليست روايات من زمن بعيد، بل جرائم تقع الآن، في قلب القرن الحادي والعشرين، على مرأى العالم ومسمعه.