الوقت - في كل صباح يتسلل الضوء إلى غزة من خلف الغيم والركام، ينهض الناس هناك كما اعتادوا، لا لأن الحياة سهلة، بل لأنها فُرضت عليهم كخيار وحيد لمواجهة الموت، غزة، تلك البقعة الصغيرة، المحاصرة، المتروكة، لا تزال تقاوم... لا بالسلاح وحده، بل بالإصرار على الحياة، على العودة، على الإعمار.
الحرب التي امتدت لأكثر من 15 شهرًا لم تكن فقط مواجهة عسكرية، بل كانت محاولة شاملة لتحطيم بنية المدينة، ومعها ذاكرة سكانها، ونمط عيشهم، ومظاهر كرامتهم، أكثر من 330 ألف وحدة سكنية دُمرت أو تضررت، و90% من الطرق باتت غير صالحة، والمستشفيات والمدارس والمساجد والمزارع تحولت إلى رماد، ومع انتهاء الجولة الدامية، بدأت المعركة الأصعب: معركة الإعمار.
إعمار... أم إقصاء؟
منذ اللحظة الأولى، ظهرت بعض الأصوات التي تدعو إلى إعادة إعمار غزة "من دون أهلها"، بزعم أن ذلك يسهل العملية، ويضمن سلامة السكان، ولكن هذا الطرح، في جوهره، لا يحمل نوايا إنسانية، إنه امتداد لسياسات الإلغاء، ونفي الوجود، وتجريد الفلسطيني من حقه في أرضه.
من هنا، جاء الرد واضحًا وحاسمًا من نقابة المهندسين المصريين، الجهة الاستشارية الأولى للدولة المصرية، بأن "الادعاء بأن الإعمار يستدعي التهجير هو طرح مشبوه وغير واقعي"، بل إن الخطة التي وضعتها النقابة تركز أولًا على إيواء سكان غزة، وبقائهم على أرضهم، وتوفير احتياجاتهم الأساسية تمهيدًا لإعمار شامل ومتدرج، يشارك فيه الفلسطيني بصفته مهندس حياته، لا نزيلًا مؤقتًا ينتظر العودة.
الأرض تسكنها الذاكرة... لا الخريطة فقط
غزة ليست خريطة هندسية يمكن رسمها عن بُعد، ولا ساحة انتظار لحلول جاهزة، هي وطن مليء بالحياة رغم الحصار، نابض بالحب رغم الألم، وراسخ في قلوب أهله، هؤلاء ليسوا عبئًا على الإعمار، بل هم روحه وشرطه الأساسي.
في كل بيت تهدم، هنالك قصة أم كانت تُعد الفطور لصغارها، وجدٌ يحتفظ بمفتاح قريته في البرج، طفل يلهو في الزقاق، شاب كان يحلم بتأسيس شركة صغيرة، أو زراعة قطعة أرضه، هؤلاء هم من يُفترض أن تُبنى غزة من أجلهم، لا أن يُطلب منهم المغادرة كي تُبنى من دونهم.
بين الركام... تُولد الخطة
الخطة العاجلة التي أعلنتها النقابة المصرية تستند إلى دراسة واقعية دقيقة، بالتعاون مع مهندسين فلسطينيين ونقابة المهندسين بالسلطة الفلسطينية، وترتكز على بناء 30 تجمعًا سكانيًا مؤقتًا، يستوعب كلاً منها 25 ألف نسمة، التجمعات ليست خيامًا، بل وحدات مؤقتة مجهزة، بمدارس، ومستشفيات، ومساجد، وأسواق، ومصادر طاقة، وشبكات مياه وكهرباء وصرف صحي.
ليست فقط مساكن، بل نواة حياة، ومع إعادة تأهيل محور "صلاح الدين"، الطريق المركزي للقطاع، تبدأ دورة جديدة من الاتصال بين البشر والمكان، تعيد نبض الشارع الغزي كما كان.
رؤية مصرية.. وشراكة فلسطينية
في القمة العربية الطارئة بالقاهرة، طرحت مصر خطة إعمار طويلة الأجل على مدار 5 سنوات، بتكلفة 53 مليار دولار، وهي خطة تقسم الإعمار إلى مرحلتين: تعافٍ سريع خلال 6 أشهر، ثم إعادة إعمار على مرحلتين متتاليتين تمتدان حتى عام 2030، الخطة لا تسعى فقط إلى البناء، بل إلى استعادة القطاع إنسانيًا واقتصاديًا وبيئيًا.
ما يُميز هذه الخطة، إلى جانب طموحها، هو تركيزها على أن تكون فلسطين جزءًا من التنفيذ لا فقط موضوعًا للمساعدة، كما أنها تقترح إنشاء صندوق ائتماني دولي لضمان الشفافية، وحشد الدعم من الدول المانحة، والمؤسسات الأممية، والقطاع الخاص الفلسطيني والدولي.
البيئة.. الجبهة المنسية في الحرب
قد لا يسمع العالم أنين الأرض كما يسمع صوت الصواريخ، لكن غزة تعاني اليوم من دمار بيئي موازٍ لما جرى للبشر، تلوث المياه، وتراكم النفايات، وتدهور الأراضي الزراعية، وتسمم الهواء، كلها كوارث صامتة تهدد الحياة اليومية في القطاع.
لذلك فإن إدماج البعد البيئي في خطط الإعمار ليس رفاهية، بل شرط لبقاء الحياة نفسها، السيناريوهات المطروحة تتضمن إعادة تدوير الركام، تحلية مياه البحر، إنشاء مشاريع للطاقة الشمسية، وتحسين إدارة المياه والصرف الصحي، وزراعة الأشجار، واستصلاح الأراضي المتضررة.
لا إعمار بلا الناس
فيتنام أعادت بناء غاباتها بعد الحرب، ألمانيا موّلت مئات المشاريع البيئية بعد الحرب العالمية الثانية، رواندا جعلت من التشجير رمزًا للسلام بعد الإبادة الجماعية، كل هذه النماذج تؤكد شيئًا واحدًا: لا شيء يُبنى إن لم يكن الإنسان في مركز المعادلة.
غزة ليست مشروعًا إنسانيًا عابرًا، بل شعب صامد، وذاكرة لا تموت، وإن أردنا فعلًا إعادة إعمار غزة، فعلينا أولًا أن نعيد الاعتبار إلى أهلها، ونُشركهم في كل خطة، في كل طوبة، وفي كل شجرة تُزرع.
غزة لا تنتظر فقط أموالًا، إنها تنتظر اعترافًا، اعترافًا بحقها في الحياة، في العودة، في القرار، في البناء، وكل خطة لا تبدأ من هذا الاعتراف، مصيرها الفشل، فلنقلها بوضوح: غزة تُبنى بأيديها، وأي إعمار لا يُشرك أهلها، هو نوع آخر من الهدم.