الوقت - في مشهد غير مسبوق في تاريخ كيان الاحتلال الإسرائيلي، أخذت العرائض الجماعية التي يوقّع عليها آلاف من العسكريين والمدنيين تثير زلزالاً سياسياً وأخلاقياً داخل المجتمع الإسرائيلي، وتفرض واقعاً جديداً يهدد بتقويض تماسك الجيش الذي طالما تغنّت به "إسرائيل" كأحد أعمدة بقائها.
بدأت شرارة هذا الحراك مساء الإثنين، حين وقّع ما يقرب من 3 آلاف من العاملين في المجالين الطبي والصحي، بينهم أطباء ومديرو مستشفيات واختصاصيو صحة نفسية، على عريضة تطالب الحكومة الإسرائيلية بوقف الحرب في غزة مقابل إعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، لم يكن هذا تحركاً شعبوياً عابراً، بل مبادرة اتخذت طابعاً نخبويًّا واضحًا، تدعمه أسماء رنانة في الأوساط العلمية والأكاديمية، من بينهم ثلاثة من الحائزين على جائزة نوبل، وهم: أهارون تشيخانوفر، أفراهام هيرشكو، وعادا يونات.
ومع امتداد الساعات، انضمت شرائح جديدة من المجتمع الإسرائيلي إلى هذا الحراك، فقد وقّع الآلاف من جنود الاحتياط في سلاح الجو، من بينهم طيارون، على رسائل مشابهة تطالب بإعادة المحتجزين ولو على حساب وقف الحرب، لاحقاً، لحق بهم أكثر من 3500 أكاديمي، و3 آلاف من العاملين في مجال التعليم، وألف من أولياء الأمور، في موجة غير مسبوقة من التضامن الداخلي، حسب ما أفادت به صحيفتا "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس".
تصدّع داخل الجيش: من سلاح الجو إلى الوحدة 8200
الأمر لم يتوقف عند المدنيين، فلأول مرة منذ عقود، يشهد الجيش الإسرائيلي انقساماً داخلياً يهدد هيبته وتماسكه، آلاف من جنود وضباط الاحتياط في وحدات النخبة مثل سلاح الجو، ولواء المظليين، وسلاح البحرية، بل حتى الوحدة 8200 الاستخبارية، وقّعوا على عرائض مماثلة تطالب بوقف الحرب فورًا، حفاظًا على حياة الأسرى.
هذا الحراك آخذ بالاتساع، ولم يعد مقتصرًا على فئة أو وحدة بعينها، فحسب مراسل التلفزيون العربي في القدس، وقّع على أحدث عريضة أكثر من 450 ضابطًا سابقًا وحاليًا في سلاح البحرية، من بينهم قيادات رفيعة في جهاز الشاباك، كما أكد الموقعون أن الحرب الحالية "تخدم مصالح سياسية وشخصية"، في اتهام مباشر لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمحاولة إطالة أمد الحرب لأغراض شخصية.
الحكومة الإسرائيلية لم تتأخر في الرد، فبينما وصف نتنياهو هذه العرائض بأنها "تمرد"، لوّح بفصل كل جندي أو ضابط يوقّع عليها، كما أطلق اتهامات بأن بعض هؤلاء الجنود "يتلقون تمويلات خارجية" لإسقاط الحكومة، وهو ما نفاه الموقعون بشكل قاطع، هذه الاتهامات عكست حالة من التوتر والقلق في دوائر القرار، وخاصة مع التزايد المطّرد في أعداد الموقعين واتساع دائرة المشاركين.
تحذيرات من تفكك الجيش وشرخ مجتمعي عميق
وفي هذا السياق، حذر الخبير في الشأن الإسرائيلي، الدكتور مهند مصطفى، من أن هذه العرائض قد تكون مقدّمة لمرحلة ثانية من العصيان العسكري، إذا تحولت من احتجاجات ورقية إلى رفض فعلي لأداء الخدمة في الاحتياط، وهو ما قد يُفاقم من أزمة التجنيد التي تواجه الجيش الإسرائيلي منذ أشهر.
وأشار مصطفى إلى أن عدداً كبيراً من جنود الاحتياط لا يلتزمون حالياً بوحداتهم، وهي ظاهرة تجري في صمت، لكن في حال تحوّلت إلى مواقف معلنة، فإنها ستشكل ضربة قاصمة للجيش، وخاصة أن الخدمة الاحتياطية في "إسرائيل" طوعية، ولا يعاقب القانون على رفضها كما هو الحال مع الخدمة النظامية.
النخب ترفض الحرب: انقلاب على القاعدة الصلبة للحكومة
أحد أبرز ما يميز هذا الحراك هو انخراط النخب الاقتصادية والفكرية في "إسرائيل"، فإلى جانب الأكاديميين، شارك في التوقيع مهندسون، وأطباء، وخريجو برامج نخبوية مثل "تلبيوت" العسكرية، الذين يشكلون واجهة "إسرائيل" التقنية والعلمية أمام العالم، هؤلاء، كما يقول مصطفى، لا يكتفون بالاحتجاج، بل يُلوّحون بخطوات تصعيدية مثل الهجرة أو مقاطعة قطاعات حيوية كالتكنولوجيا، ما ينذر بهزة اقتصادية واجتماعية عنيفة، في حال واصل نتنياهو تجاهله لهذه الرسائل المتصاعدة.
اللافت أن هذا الحراك لا يتحدث عن إنهاء الحرب لأسباب إنسانية تتعلق بالمجازر المرتكبة في غزة، بل من منطلقات مصلحية داخلية تتمثل في إعادة المحتجزين، ورغم ذلك، فإن هذه المطالب تقوّض ما كانت الحكومة تدعيه من إجماع وطني حول استمرار العمليات العسكرية، وتفتح الباب على مصراعيه لتفكك الجبهة الداخلية.
نتنياهو في مأزق: الداخل يضغط والخارج يراقب
لم يكن نتنياهو ليُغيّر من سياسته أو يُفكر في صفقات تبادل لولا هذا الضغط الداخلي المتصاعد، فالعرائض تهدد بتحويل التصدّع من خلاف سياسي إلى أزمة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وتضع نتنياهو أمام معادلة صعبة: الاستمرار في الحرب وخسارة دعم الداخل، أو التراجع تحت ضغط هذه الاحتجاجات.
ما يشهده الكيان الإسرائيلي اليوم ليس فقط أزمة حرب، بل أزمة هوية وانقساماً داخلياً عميقاً، ولعل ما يميز هذه اللحظة هو أن الانشقاق لم يأتِ من الشارع وحده، بل من صميم المؤسسة العسكرية ومن قلب النخبة التي طالما دعمت الكيان العبري في كل حروبه، إنها لحظة تعرٍّ، تواجه فيها "إسرائيل" نفسها، وتسأل: هل تستمر في حرب تحصد أرواح المدنيين وتغرقها في العزلة الدولية، أم تصغي لصوت العقل من داخلها؟
هذا السؤال يبقى مفتوحًا، لكن ما هو واضح أن الأيام القادمة قد تحمل ما هو أخطر من مجرد عرائض.