الوقت- عادت العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى واجهة التوتر السياسي، بعد أن قررت الجزائر طرد 12 موظفًا من سفارة فرنسا في الجزائر، في خطوة أثارت ردود فعل حادة من الجانب الفرنسي وهددت بإشعال أزمة جديدة بين البلدين اللذين لطالما طبع علاقتهما مزيج من الشراكة والتأزم المتكرر.
وزير الخارجية الفرنسي، جان-نويل بارو، أعلن يوم الإثنين 14 أبريل/نيسان 2025، أن السلطات الجزائرية طلبت من الموظفين مغادرة البلاد في غضون 48 ساعة، معربًا عن رفض بلاده لهذه الخطوة التي وصفها بأنها لا ترتبط مباشرة بالإجراءات القضائية الجارية في فرنسا، وأضاف في لهجة إنذار واضحة: "إذا استمر قرار الطرد، فلن يكون أمامنا خيار سوى الرد الفوري".
خلفية القرار: قضية بوخرص تعيد فتح الجراح
جاء القرار الجزائري ردًا على توقيف ثلاثة جزائريين في فرنسا، أحدهم موظف في القنصلية الجزائرية، وُجهت إليهم تهم تتعلق بالتخطيط لخطف واحتجاز المؤثر والمعارض الجزائري أمير بوخرص، المعروف على منصات التواصل بلقب "أمير دي زد"، في ضاحية جنوب باريس نهاية أبريل 2024.
النيابة العامة الفرنسية المختصة بقضايا الإرهاب، وجهت لهم اتهامات تتعلق بخطف واحتجاز تعسفي على صلة بـ"مخطط إرهابي"، بالإضافة إلى تهمة تشكيل "عصابة إجرامية إرهابية"، وقد تم توقيفهم ووضعهم رهن الحبس الاحتياطي.
بوخرص، الذي يتمتع بشعبية كبيرة على تطبيق تيك توك ويتابعه أكثر من مليون شخص، يعيش في فرنسا منذ 2016، وحصل على اللجوء السياسي عام 2023 بعد أن رفضت السلطات الفرنسية تسليمه، رغم أن الجزائر كانت قد أصدرت بحقه تسع مذكرات توقيف دولية بتهم تتعلق بالإرهاب والاحتيال.
الجزائر ترد: رفض للتهم وتنديد بالتصعيد
الجزائر لم تتأخر في الرد، حيث أصدرت وزارة خارجيتها بيانًا شديد اللهجة يوم السبت، وصفت فيه الاتهامات الموجهة إلى موظفها القنصلي بأنها "غير مقبولة ولا مبررة"، وشددت على أن القضية تمثل "تطورًا خطيرًا من شأنه الإضرار بالعلاقات الثنائية"، مؤكدة رفضها أن تمر الحادثة "من دون تبعات أو عواقب".
الجزائر استنكرت ما وصفته بـ"هشاشة وضعف الأدلة" التي قدمتها السلطات الفرنسية، معتبرة أن التحقيقات تستند فقط إلى "تواجد هاتف الموظف القنصلي بالقرب من عنوان إقامة بوخرص"، وهو ما عدّته غير كاف لتوجيه تهم بهذه الخطورة.
محاولات التهدئة تصطدم بأزمة ثقة
ورغم هذا التصعيد، كشفت مصادر دبلوماسية فرنسية عن أن "الاتصالات ما زالت قائمة" وأن باريس "تسعى إلى التهدئة"، وخصوصًا بعد أن كانت العلاقات بين البلدين قد بدأت في استعادة بعض من دفئها مطلع أبريل، إثر زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر ولقائه بالرئيس عبد المجيد تبون ووزير الخارجية أحمد عطاف.
في تلك الزيارة، أعلن بارو عن "مرحلة جديدة" في العلاقات بين البلدين، جاءت بعد مكالمة هاتفية مطوّلة بين ماكرون وتبون تزامنًا مع عيد الفطر، وضعا خلالها خارطة طريق تهدف إلى طيّ صفحة أزمة استمرت ثمانية أشهر، بدأت عندما عبّر ماكرون صراحة عن دعمه لمبادرة الحكم الذاتي المغربي في الصحراء الغربية، الأمر الذي استفز الجزائر وأدى إلى سحب سفيرها من باريس.
قضايا الهجرة والعدالة تعمّق الجراح
لم تتوقف الأزمات عند قضية بوخرص، فقد أثارت ملفات أخرى توترًا إضافيًا مثل توقيف الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال في الجزائر، وقضايا متعلقة بالهجرة، حيث رفضت الجزائر استقبال عدد من المرحلين من فرنسا، وازدادت حدة المواقف بعد توقيف أحد معاوني القنصليات الجزائرية دون إخطار مسبق عبر القنوات الدبلوماسية.
وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، أكد الأحد أن التحقيقات أثبتت وقوع عملية اختطاف بالفعل، وأن أحد موظفي القنصلية في كريتاي كان له دور فيها، لكنه تحفظ عن توجيه الاتهام المباشر للحكومة الجزائرية، مكتفيًا بالقول إن "ارتباط العملية بالدولة لم يُثبت"، لكنه شدد على أن "فرنسا كدولة سيادية تتوقع احترام قوانينها على أراضيها".
معارضة داخلية في فرنسا وغضب يميني
على صعيد آخر، لم تفوّت المعارضة الفرنسية الفرصة لانتقاد سياسة ماكرون تجاه الجزائر، فقد سخر جوردان بارديلا، زعيم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، من نتائج "استراتيجية التهدئة" التي يتبعها الرئيس الفرنسي، أما النائب اليميني لوران فوكييه فاعتبر ما حدث "إذلالًا جديدًا" لفرنسا، مطالبًا الحكومة باستعادة كرامة البلاد وفرض احترامها على الجزائر.
الاقتصاد ليس بمنأى عن التوتر
ورغم الطابع السياسي للأزمة، إلا أن أبعادها الاقتصادية لا تقل أهمية، فقد أظهرت بيانات رسمية تراجعًا ملحوظًا في الصادرات الجزائرية إلى فرنسا بين 2018 و2023، في مقابل تطور في علاقات الجزائر مع شركاء آخرين أبرزهم إيطاليا، وتُظهر أرقام عام 2023 أن الجزائر ما زالت ثاني أهم سوق فرنسية في إفريقيا، لكن محللين اقتصاديين يرون أن الجزائر تتجه استراتيجيًا لتقليل اعتمادها على باريس، ما يشير إلى "فتور بارد" قد يطغى على العلاقة الاقتصادية مستقبلاً.
رغم محاولة القيادتين الفرنسية والجزائرية ترميم العلاقة مجددًا، إلا أن الأزمة الأخيرة تعكس هشاشة هذه العلاقة واستعدادها الدائم للانفجار عند أول احتكاك، الملف الآن لم يعد محصورًا بقضية بوخرص فقط، بل بات مرآة لمجمل الخلافات العالقة منذ عقود: من الماضي الاستعماري إلى ملفات الهجرة، ومن التقارب مع المغرب إلى التوترات الأمنية، وبين محاولات "التهدئة" الفرنسية والرفض الجزائري لأي "تساهل"، تبدو العلاقات الثنائية أمام امتحان حقيقي، يتطلب من الطرفين أكثر من اتصال هاتفي أو زيارة دبلوماسية، فالثقة التي تهتز اليوم قد تتطلب سنوات لإعادة بنائها.