الوقت - بينما كانت أروقة القاهرة تشهد استمرار المباحثات حول تثبيت الهدنة في غزة، بادر جيش الكيان الصهيوني فجر الثلاثاء المنصرم، وبمباركة صريحة من إدارة دونالد ترامب، إلى شنّ موجة عاتية من الغارات الوحشية على القطاع المنكوب، ما يمثّل نقضاً فاضحاً للاتفاق وصفعةً مدويةً للوساطة العربية.
نقض الهدنة من قبل الصهاينة بتواطؤ أمريكي صارخ
استأنف الكيان الصهيوني عدوانه الغاشم على غزة في وقت لم يلتزم فيه أصلاً بمقتضيات الهدنة حتى إبان مرحلتها الأولى، إذ ارتقى أكثر من مئة وخمسين شهيداً من أبناء فلسطين خلال تلك الفترة، وكانت المعونات الإنسانية التي سمح بإدخالها إلى القطاع المحاصر، أدنى بكثير مما نصت عليه بنود الاتفاق.
وعقب انقضاء المرحلة الأولى، وفي ظل تعنت الصهاينة وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان المحتل، ورفضهم الانتقال إلى المرحلة الثانية، أحكمت قوات الاحتلال إغلاق المعابر إغلاقاً تاماً، فانقطعت شرايين الإمداد عن القطاع المنكوب.
جرى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في السابع عشر من يناير تحت رعاية مصرية قطرية، وبضمانات أمريكية واضحة قدمتها إدارة ترامب، وتضمن الاتفاق ثلاث مراحل، التزمت بموجبه حركة حماس بإطلاق سراح عدد من الأسرى الصهاينة مقابل الإفراج عن معتقلين فلسطينيين، وقد نفذت الحركة التزاماتها كاملةً دون إبطاء أو مماطلة، أما الصهاينة، فإضافة إلى خرقهم السافر للبروتوكول الإنساني المنصوص عليه في الاتفاق، فقد وضعوا العراقيل مراراً أمام إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين.
مكيدة واشنطن وتل أبيب لانتزاع ورقة الأسرى من قبضة المقاومة
بعد انقضاء ما يربو على عشرة أيام من انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، طالب آدم بولر، مبعوث ترامب الخاص لشؤون الأسرى الفلسطينيين الذي تفاوض مباشرةً مع وفد حماس، بالإفراج عن أسير صهيوني يحمل الجنسية الأمريكية وتسليم جثامين أربعة أسرى إسرائيليين متوفين، كشرط لبدء مفاوضات المرحلة الثانية.
أبدت حماس استعدادها لتلبية هذا المطلب، بيد أن الكيان الصهيوني رفضه بصورة قاطعة، ثم تقدم ستيف ويتكوف، مبعوث البيت الأبيض للمنطقة، باقتراح جديد يتماهى كلياً مع مطالب الصهاينة، فوفقاً لمقترح المسؤول الأمريكي، ينبغي الإفراج عن نصف الأسرى الإسرائيليين الأحياء وتسليم رفات نصف الأسرى المتوفين، مقابل هدنة مؤقتة تمتد لخمسين يوماً في غزة.
كما امتنعت الإدارة الأمريكية عن تقديم أي تعهدات بإلزام الصهاينة بالانسحاب من قطاع غزة، والدخول في المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب بصورة نهائية، ولم تلتزم بإجبار "إسرائيل" على الانخراط في المرحلة الثانية من الاتفاق.
من الجلي أن قبول حماس لهذا العرض المجحف، كان سيعني تسليم مفاتيح غزة لواشنطن والكيان الصهيوني، لهذا، شدّد وفد حماس المفاوض على أنه مستعد للتعاطي مع هذا المقترح شريطة إدخال تعديلات جوهرية عليه، أبرزها ضمان الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال الصهيوني من غزة، وإقرار وقف دائم لإطلاق النار.
تكشف هذه المناورات الأمريكية والصهيونية بجلاء عن استراتيجية مدروسة تستهدف انتزاع ورقة الأسرى من يد حماس، تمهيداً لشنّ هجوم كاسح على غزة.
مرامي المحتل من استئناف نار الحرب على غزة
في هذا السياق، يرى المحللون أن ثمة أهدافاً كامنةً وراء تجديد العدوان الصهيوني على غزة، يمكن تفسيرها في إطار التحولات الإقليمية الراهنة التي تشهد اضطراباً غير مسبوق:
- استئناف القصف الجوي على غزة، يمثّل نقضاً فاضحاً وإلغاءً صريحاً لاتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم في يناير، إن تجديد نار الحرب على غزة، يمنح نتنياهو فسحةً زمنيةً للاحتفاظ بمقاليد حكومته والبقاء في المشهد السياسي، فضلاً عن تأجيل محاكمته بسبب الإخفاق المدوي في السابع من أكتوبر 2023، وخصوصاً بعد اعترافات هرتسي هاليفي، رئيس أركان جيش الاحتلال الصهيوني السابق، وإقراره بنجاح حماس في خداع المنظومة الأمنية الإسرائيلية.
- يمكن ربط استئناف العدوان على غزة بالتطورات السياسية المتسارعة التي شهدها الكيان الصهيوني في الأيام الأخيرة، وأبرزها قرار نتنياهو إقالة رونين بار، رئيس جهاز الشاباك، ومستشاره القضائي، ما أفضى إلى تعميق الشروخ والانقسامات الداخلية في صفوف الصهاينة، فعقب هذه المساعي المحمومة من نتنياهو لإزاحة قادة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تفاقمت الأزمة الداخلية للكيان بصورة غير مسبوقة، كما أن المطالبة بتنحية رئيس مؤسسة أمنية-استخبارية عريقة كالشاباك، تقوّض بشدة ثقة الرأي العام الصهيوني بالمنظومة العسكرية-الاستخبارية الإسرائيلية.
ومن زاوية أخرى، لا تزال شوارع فلسطين المحتلة تعجّ بالمظاهرات المنددة بنتنياهو، بسبب سياساته المتهورة التي تعرض حياة الأسرى الإسرائيليين في غزة للخطر المحدق. لذا، يعتقد كثيرون أن نتنياهو لجأ إلى استئناف الحرب على غزة للتهرب من استحقاقات الأزمات الداخلية، والتعتيم على الفشل الذريع في مواجهة عملية طوفان الأقصى.
- من بين الدوافع الأخرى لنتنياهو في استئناف الحرب على غزة، مساعيه الحثيثة لاسترضاء إيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي المستقيل في الحكومة الفاشية الإسرائيلية، الذي نأى بنفسه احتجاجاً على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وطالب بمواصلة الحرب دون هوادة، يحتاج نتنياهو بشدة إلى نيل رضا بن غفير والقوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في "إسرائيل"، لضمان تمرير الموازنة والحيلولة دون انهيار حكومته.
- يتزامن استئناف العدوان الصهيوني على غزة مع الغارات الأمريكية على اليمن، ما يشي بأن "إسرائيل" تتعمد إيصال رسالة لجميع الأطراف في المنطقة، مفادها بأنها تنسق خطواتها مع حليفها الأول، الولايات المتحدة، وبذلك تسعى لاستعراض قوتها وردع خصومها.
سيناريوهات تصاعد التوترات في المنطقة
من المؤكد أن المقاومة الفلسطينية لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا العدوان السافر، وكما يتجلى من تصريحات قادة حماس، فقد عقدت الحركة العزم على التصدي للاستراتيجية الأمريكية-الإسرائيلية، ولن تفرط بورقة الأسرى مهما بلغت التضحيات.
وفي قراءة متأنية للمشهد الإقليمي، يتضح جليا أن المنطقة برمتها قد دخلت منعطفاً تاريخياً خطيراً، وبات من المستحيل العودة إلى الوضع الذي ساد قبل اندلاع حرب غزة، وخلافاً لما تروّج له آلة الدعاية الأمريكية والإسرائيلية، فإن محور المقاومة لا يزال متماسكاً، وقادراً على صياغة معادلات جديدة تقلب الطاولة على المعتدين.
الحقيقة الساطعة هي أن المنطقة تقف الآن على فوهة بركان، وإدارة ترامب التي ادعت زوراً أنها جاءت لإخماد نيران الحرب، قد اختارت طريق المغامرة والانتحار، ويتجلى ذلك بوضوح في إشعال فتيل العدوان الأمريكي الهمجي على اليمن.
ولاستشراف مآلات المشهد المستقبلي، يتعين علينا ترقب التطورات المتلاحقة التي ستشهدها ساحة غزة الملتهبة، وكذلك الميدان اليمني المشتعل.