الوقت - بينما يستنفر دونالد ترامب، سيد البيت الأبيض، كل أدوات القوة والنفوذ في جعبته، ساعياً - في وهمٍ يراوده - إلى إركاع الجمهورية الإسلامية وإجبارها على الانصياع لمائدة مفاوضاتٍ مثقلة بشروط تعجيزية من خلال سياسة الضغط القصوى، تنتهج طهران في المقابل نهجاً حكيماً يقوم على استثمار إمكانات تحالفاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين، منافسَي الولايات المتحدة اللدودين، لإحباط المساعي العدوانية للإدارة الأمريكية وتحييد مفعولها.
وفي هذا المضمار، شهدت الساحة الدولية مؤخراً توقيع اتفاق سياسي بالغ الأهمية بين روسيا وإيران والصين بشأن الملف النووي، مثَّل مناورةً دبلوماسيةً بارعةً من جهاز السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية في مواجهة التحركات السياسية الغربية المحمومة.
تُوِّج هذا الاتفاق بعد اجتماع ثلاثي رفيع المستوى جمع نواب وزراء خارجية الدول الثلاث يوم الجمعة المنصرم، في العاصمة الصينية بكين، حيث تداول ما جياوشو، نائب وزير خارجية الصين، وكاظم غريب آبادي، نائب وزير خارجية إيران، وسيرغي أليكسييفيتش ريابكوف، نائب وزير خارجية روسيا، بإسهاب وتفصيل آخر مستجدات القضية النووية، وسبل رفع العقوبات الجائرة المفروضة على إيران.
وفي البيان الختامي، الذي جاء بلغة حازمة وواضحة، أدانت الدول الثلاث العقوبات المفروضة على إيران إدانةً قاطعةً، وشددت على ضرورة التزام الأطراف المعنية بمعالجة الأسباب الجذرية للوضع الراهن، والتخلي عن سياسات فرض العقوبات والضغوط والتلويح باستخدام القوة.
وأكدت الدول الثلاث بصوت واحد على أهمية قرار مجلس الأمن رقم 2231، بما في ذلك الجداول الزمنية المنصوص عليها فيه، وناشدت الأطراف المعنية الامتناع عن أي إجراء من شأنه أن يؤجّج نيران التوتر، بغية تهيئة الأجواء والظروف الملائمة للمساعي الدبلوماسية الهادفة إلى حل الأزمة.
ورحبت الصين وروسيا ترحيباً حاراً بتجديد إيران تأكيدها على أن برنامجها النووي مكرس حصراً للأغراض السلمية، وليس لإنتاج أسلحة نووية، كما أعربتا عن تأييدهما الراسخ لسياسة إيران في مواصلة التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وشددتا على ضرورة الاحترام الكامل لحق إيران، بوصفها دولةً عضواً في معاهدة عدم الانتشار، في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وفي محور آخر من الاتفاق، أكدت الدول الثلاث على وجوب امتناع جميع الدول عن أي إجراء قد يقوّض الأنشطة الفنية والمحايدة والموضوعية للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
انعقد هذا الاجتماع المصيري في وقتٍ جددت فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في الآونة الأخيرة مزاعمهم المعهودة ضد البرنامج النووي الإيراني، زاعمين أن طهران قد وسعت نطاق أنشطتها النووية خارج دائرة إشراف الوكالة الدولية.
وعلى هذا المنوال، هددت الدول الثلاث - بريطانيا وفرنسا وألمانيا - بأنها على أهبة الاستعداد، عند الاقتضاء، لتفعيل "آلية الزناد"، وإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران بكل ثقلها.
تأتي هذه الاتهامات الواهية في وقتٍ أقرت فيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية مراراً وتكراراً في تقاريرها الفصلية، بالطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني، وأكدت أن طهران قد وفت بالتزاماتها في الاتفاق النووي وفاءً تاماً.
وعلى النقيض من الموقف الغربي المتشنج، دأبت روسيا والصين على دعم البرنامج النووي السلمي الإيراني دعماً ثابتاً لا يتزعزع، وأكدتا في اجتماع بكين الطبيعة السلمية لأنشطة إيران، ساحبتين البساط من تحت أقدام واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وقاطعتين الطريق على أي ذرائع قد يتذرعون بها.
وما يجدر ذكره أن الترويكا الأوروبية كانت تعتزم تجاوز روسيا والصين وإقصاءهما من دائرة المفاوضات من خلال صيغة جديدة للمفاوضات "1+3"، غير أن هذا الاجتماع أظهر بجلاء أن القوتين النوويتين العضوين الدائمين في مجلس الأمن، ستقفان سداً منيعاً وراء موقف إيران في مواجهة الضغوط السياسية الغربية، ولن تسمحا بتشكيل إجماع ضد إيران في أروقة مجلس الأمن.
درس بليغ في الدبلوماسية لترامب
انعقد هذا الاجتماع في أتون تهديدات أمريكية متصاعدة ضد إيران، حيث سعى ترامب بلغة الصلف والغطرسة إلى إملاء اتفاق جديد على طهران، غير أن السيد الخامنئي، المرشد الأعلى للثورة في إيران، وسائر المسؤولين الإيرانيين أكدوا مراراً وتكراراً أنهم لن ينحنوا أمام عنجهية واشنطن، ولن يرضخوا للتفاوض تحت وطأة الضغوط مهما بلغت.
كما بعث ترامب في الآونة الأخيرة برسالة إلى المرشد الأعلى للثورة في إيران عبر الإمارات، أقر بنفسه أن تفاصيلها تشير إلى جميع الخيارات المطروحة على الطاولة، بما فيها الدبلوماسية وحتى العسكرية، لمواجهة البرنامج النووي الإيراني، وعليه، فإن عقد الاجتماع الثلاثي في بكين في خضم هذه الظروف المتوترة، يحمل رسائل جلية لقاطني البيت الأبيض.
لقد لقّنت الصين وروسيا، من خلال توقيع الاتفاق الأخير، الغربيين درساً بليغاً في فن الدبلوماسية، وأوضحتا لترامب بما لا يدع مجالاً للشك أن التفاعلات الدبلوماسية والسياسية والحوار القائم على أساس الاحترام المتبادل، هو السبيل الوحيد المجدي والموثوق لحل هذه المعضلة.
هذا في حين أن ترامب، منذ اعتلائه سدة الحكم في البيت الأبيض، وإن تظاهر برغبته في التفاوض مع إيران، إلا أنه برهن عملياً من خلال فرض عقوبات جديدة والتهديد بمهاجمة المنشآت النووية، أنه لا يكترث بالمسار الدبلوماسي، وأنه يداعب أحلاماً واهيةً باستسلام إيران دبلوماسياً.
كما أن التشديد على ضرورة احترام القانون الدولي وصون سيادة الدول، يعكس رفضاً قاطعاً للسياسات العدوانية والأحادية الأمريكية، ويؤكد أنه في أي حوار محتمل يجب صيانة حقوق الشعب الإيراني صيانةً تامةً، وإلا فإن جميع المسارات ستفضي حتماً إلى طريق مسدود.
ويكتسب الدعم الصريح من روسيا والصين أهميةً بالغةً لأن هاتين القوتين العظميين، من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي والتقني مع إيران، بوسعهما تخفيف وطأة العقوبات الأمريكية تخفيفاً ملموساً، وتحديداً الصين، بوصفها الشريك التجاري الأكبر لإيران، تضطلع بدور محوري في الحفاظ على استمرارية التدفقات المالية والتجارية، ما يشير بوضوح إلى أن تشديد نطاق العقوبات الغربية لن يؤتي ثماره المرجوة.
إن عزوف العديد من الدول عن تأييد العقوبات الأمريكية ضد إيران، خلافاً لما كان عليه الحال في السابق، يبرهن بجلاء على أن سياسة الضغط القصوى ومحاولات تطويق الجمهورية الإسلامية قد باءت بالفشل الذريع، وأن المضي قدماً في هذا النهج العقيم، لن يلبي مطامح واشنطن.
علاوةً على ذلك، فإن انعقاد اجتماع بكين في أعقاب المناورات البحرية المشتركة بين إيران وروسيا والصين في المنطقة الاستراتيجية للخليج الفارسي ومضيق هرمز وبحر عمان وصولاً إلى مضيق مالاكا، يستحضر إلى الأذهان الشراكات الاستراتيجية الوثيقة بين الدول الثلاث، والتي بمقتضاها تعتبر روسيا والصين أن أي تهديد لإيران عسكرياً، يشكّل تهديداً للأمن الدولي برمته ولمصالحهما الراسخة والشاملة في نظام توازن القوى العالمي المتحول؛ نظام تسعى فيه أمريكا ترامب، كقوة مهيمنة آخذة في الأفول، إلى الحيلولة دون صعود منافسيها، من خلال تبني عقيدة زرع الفوضى في بؤر التنافس الجيوسياسي الاستراتيجية.
وعليه، فإن إجراء هذه المناورات واجتماع بكين، يجسّدان الوحدة السياسية والعسكرية الراسخة لهذه الدول الثلاث المؤثرة، في مواجهة هيمنة وأطماع العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة، كما أن هذا الاجتماع، فضلاً عن تأثيره الفوري في تقويض حدة تهديدات ترامب، يمهّد الطريق لتعاون أعمق واستراتيجي بين إيران وروسيا والصين في المجال النووي، وما يتجاوزه من مجالات حيوية.
تأثير اجتماع بكين على نهج ترامب التهديدي
أكد السيد جعفر قنادباشي، الخبير في شؤون غرب آسيا، في حديث مع "الوقت"، حول تأثير التحالف الثلاثي بين إيران وروسيا والصين بشأن البرنامج النووي على رؤية ترامب ومواقفه قائلاً: "لقد حمل اجتماع بكين في طياته رسائل بالغة الأهمية للعالم الغربي بشأن البرنامج النووي، فحواها أن إيران ليست معزولةً كما يتوهمون، بل تقف شامخةً إلى جانب القوى العظمى في العالم، وتمتلك قدرات هائلة في ميدان الردع والتأثير على المعادلات السياسية العالمية. کما برهنت الصين وروسيا بدعمهما الراسخ لإيران، أن إضعافها لا يصب في مصلحتهما بأي حال من الأحوال، وأنهما تتطلعان إلى إيران قويةً متماسكةً، لأن أي وهنٍ يصيبها سيفتح الباب على مصراعيه أمام الأمريكيين للهيمنة على أوضاع المنطقة، وخاصة على مصادر الطاقة، وتحقيق مآربهم، وبالتالي فإن إيران القوية ستقف سداً منيعاً دون ذلك".
وأضاف السيد قنادباشي: "إن معارضة روسيا والصين الحازمة لأحادية الولايات المتحدة، دفعتهما إلى مؤازرة طهران بوضوح لا لبس فيه، واتخذت القوى الثلاث في هذا الاجتماع التاريخي موقفاً موحداً إزاء العديد من القضايا العالمية الملحة، وفي مقدمتها البرنامج النووي، وهذا التقارب الاستراتيجي يتجلى في أسمى صوره، ويبرهن على أنهم سيشكلون درعاً واقياً ضد أي نوع من التهديدات الأمريكية للبرنامج النووي الإيراني.
لقد حمل هذا الاجتماع رسالةً لا تقبل التأويل، مفادها بأن الغرب يعجز عن إقصاء إيران من ساحة المعادلات السياسية وتطويقها، وأن إيران تحظى بمؤازرة قوى عظمى تقف هي الأخرى في وجه أطماع الغربيين المتغطرسة، وعليه، تحقق في اجتماع بكين تآزرٌ استثنائي بين الدول الثلاث، وتجلت قوة الردع المشتركة للقوى الثلاث في مواجهة الغطرسة الغربية".