الوقت - في كل عام، كان شهر رمضان يحل على غزة وسط أجواء من الفرح والروحانية، حيث كانت الشوارع تتزين بالفوانيس المضيئة، والأطفال يتجولون بحماس بين المحال لشراء الحلوى، والأسر تجتمع حول موائد الإفطار العامرة بالحب قبل الطعام. لكن رمضان هذا العام جاء في ظل حرب لم تترك شيئًا على حاله، إذ وجد سكان القطاع أنفسهم بلا مأوى، بلا طعام كافٍ، بلا كهرباء، بل إن كثيرين فقدوا أحباءهم وأعزاءهم.
ورغم هذا الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب، لم يستسلم الفلسطينيون، ولم يسمحوا لهذه المأساة أن تطغى على روح الشهر الفضيل. فحتى وهم ينامون في العراء، وحتى وهم يقتاتون على القليل مما توفر، رفعوا زينة رمضان فوق الأنقاض، كأنها رسالة للعالم بأنهم ما زالوا على قيد الحياة، وما زالوا متمسكين بثقافتهم وإيمانهم وتقاليدهم.
بين الدمار والجوع.. غزة تصوم وتصلي
في اليوم الأول من رمضان، وبينما كانت الأمطار تغرق خيام النازحين، كان الآذان يصدح في المساجد، يدعو الناس للصلاة رغم أنها تقام وسط الركام أو في خيام بلاستيكية لا تقي من البرد. اجتمع العشرات من أهالي غزة لأداء صلاة التراويح في المسجد العمري، ولكن هذه المرة تحت خيمة أقيمت فوق أنقاض المدينة المدمرة. لم تكن هناك سجاد فاخرة ولا أضواء براقة، بل خشوع وإيمان يملآن المكان، رغم الألم الذي يسكن القلوب.
الطعام في غزة خلال رمضان هذا العام ليس كما كان في السنوات الماضية، فالأسواق تعاني نقصًا حادًا في المواد الغذائية، والمساعدات الإنسانية تكاد تكون معدومة بعد أن أوقفت إسرائيل دخولها بحجج واهية. ومع ذلك، خرج الناس إلى الأسواق، متشبثين بما تبقى من عاداتهم الرمضانية، يحاولون شراء ما يستطيعون توفيره لعائلاتهم، وكأنهم يرفضون أن تسلبهم الحرب حتى أبسط طقوسهم اليومية.
موائد رمضانية بين الركام.. تحدي الجوع والحرمان
لم يترك الفلسطينيون الظروف القاهرة تمنعهم من ممارسة عاداتهم الرمضانية، ففي مدينة خان يونس، التي تحولت إلى أكوام من الدمار، أقيم أول سحور جماعي بين الأنقاض. اجتمع العشرات، كبارًا وصغارًا، على مائدة طويلة، تقاسموا ما تيسر من الطعام، وأشعلوا الزخارف الرمضانية البسيطة، في مشهد يحمل الكثير من الدلالات، أهمها أن هذا الشعب لا يمكن أن يُهزم.
لم يكن السحور وحده هو التحدي، بل إن الأطفال الذين فقدوا منازلهم ودفاترهم وحتى ألعابهم، عادوا ليضيئوا فوانيس رمضان، التي بدت وكأنها شعلة أمل وسط ظلام الحرب. ارتفعت أصواتهم بفرح بريء، يقاوم الألم الذي حولهم، وكأنهم يرفضون أن يكونوا مجرد أرقام في تقارير الضحايا.
رمضان في الضفة.. معاناة لا تقل وجعًا
لم تكن غزة وحدها التي استقبلت رمضان وسط المعاناة، فالضفة الغربية أيضًا شهدت ظروفًا قاسية. ففي طولكرم، حيث استمرت العملية العسكرية الإسرائيلية لأكثر من 21 يومًا، تم هدم منازل وتهجير آلاف الفلسطينيين، ما جعل رمضان هذا العام يمر على الأهالي وهم في حالة نزوح وفقدان.
ومع استمرار القتل والاعتقالات، ومع تحذيرات دولية من خطورة التصعيد خلال الشهر الفضيل، كان الفلسطينيون في الضفة يعبرون عن إحساسهم بأن رمضان هذا العام يمر حزينًا، دون الفرحة التي اعتادوا عليها. فكيف يمكن لأحد أن يحتفل بالشهر الكريم، بينما يُقتل إخوانه في غزة، وتُهدم منازلهم على رؤوسهم؟
هل يُهزم شعب يرفع زينة رمضان فوق الأنقاض؟
وسط هذا الكم الهائل من المآسي، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن هزيمة شعب يحتفل برمضان رغم كل شيء؟ كيف يُكسر شعبٌ يجتمع حول مائدة السحور بين الركام، ويؤدي صلاة التراويح تحت خيمة بلاستيكية، ويرفع زينة رمضان فوق أنقاض المنازل؟ كيف يُهزم من يضيء الفوانيس وسط العتمة، ومن يقيم الشعائر رغم التهجير والقتل؟
غزة ليست مجرد مدينة تحت الحصار، إنها رمز للصمود والإرادة، إنها رسالة إلى العالم أن الاحتلال والقصف والتجويع قد يسرقون الأرض، لكنهم لا يستطيعون سرقة الإيمان ولا القدرة على المقاومة. فبين الأنقاض، وتحت الخيام، وفي ظل التهديدات اليومية، يبقى الفلسطينيون أوفياء لشهرهم الفضيل، مؤمنين بأن النصر قادم، مهما طال الزمن.
رمضان غزة.. ليس مجرد صيام، بل مقاومة
رمضان في غزة هذا العام لم يكن فقط شهرًا للصيام والعبادة، بل كان فعل مقاومة يومي، مقاومة ضد الحرب، ضد التهجير، ضد التجويع، وضد محاولات محو الهوية. كان رمضانهم رسالة بأنهم ما زالوا هنا، رغم أنف الاحتلال، وأن الحرب قد تدمر المباني، لكنها لن تقتل الروح.
في النهاية، سيأتي رمضان القادم، وستكون غزة أقوى، ستُعاد إعمار المساجد التي دُمرت، وستُضاء الفوانيس في شوارع جديدة، وسيتجمع الأطفال حول موائد الإفطار في منازلهم وليس تحت الخيام. ستبقى غزة، ويبقى شعبها، لأن من يستطيع أن يحوّل الأنقاض إلى زينة، والدموع إلى صلاة، والجوع إلى صبر، لا يُهزم أبدًا.