الوقت- في مشهد غير مسبوق يخالف كل أعراف الدبلوماسية الرفيعة التي ظلت تُصان في أروقة البيت الأبيض الأمريكي على مدى قرن كامل، قدّم دونالد ترامب عرضاً استثنائياً من نوعه، محوّلاً المكتب البيضاوي إلى مسرح للمناوشات اللفظية والسجالات غير المحسوبة أمام عدسات الكاميرات العالمية، التي نقلت المشهد إلى أرجاء المعمورة.
لقد تحولت المواجهة المثيرة بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي في قلب المكتب البيضاوي على مدار اليومين الماضيين إلى ظاهرة إعلامية استثنائية، متصدرةً قوائم المشاهدة التلفزيونية حول العالم، وتكشف تفاصيل هذا الحدث الدرامي، أن كلا الزعيمين كان يتربص باللحظة المواتية للانقضاض على الآخر، فوجدا ضالتهما في لقاءٍ كان من المفترض أن يكون تجسيداً للأصول الدبلوماسية الرفيعة.
في جوهر هذا الصراع المشتعل، يکمن موقف ترامب المتحفظ إزاء تقديم الدعم لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وهو ما يثير هواجس عميقة لدى الرئيس الأوكراني الذي يقف بلاده على حافة الهاوية.
كان الهدف المعلن من زيارة الرئيس الأوكراني للولايات المتحدة، هو إبرام اتفاقية بالغة الأهمية تقضي بتسليم الثروات المنجمية الأوكرانية للجانب الأمريكي، وقد أصرّ ترامب على أن تُقدَّم هذه المناجم كتعويض عن الدعم العسكري السخي الذي قدمته واشنطن لكييف خلال سنوات المواجهة مع موسكو.
وبينما كان زيلينسكي قد حضر خصيصاً لإضفاء الطابع الرسمي على هذا التنازل التاريخي، فإن المشادة العاصفة التي اندلعت بين الجانبين في العاصمة الأمريكية قد أزاحت الاتفاقية من دائرة الضوء، لتحلّ محلها دراما سياسية مشحونة تجاوزت كل الخطوط الحمراء الدبلوماسية المتعارف عليها في أرقى أروقة السياسة العالمية.
تبادل الاتهامات والإهانات: مشهد غير مسبوق في أروقة السلطة الأمريكية
في مشهد يخالف كل قواعد الأعراف الدبلوماسية العريقة، تحولت أروقة البيت الأبيض إلى مسرح لتبادل الاتهامات اللاذعة والعبارات النابية بين قطبين سياسيين، كان من المفترض أن يجسّدا قمة الحنكة السياسية والرزانة الدبلوماسية.
اتسم الحوار بين الرئيسين بنسيج متشابك من الاتهامات المتبادلة، حيث انهال ترامب ونائبه على ضيفهما الأوكراني بسيل من العبارات التأنيبية المغلفة بنبرة استعلائية صارخة: "لا تتجرأ على إملاء مشاعرنا علينا"، "لم تكن وحيداً في ساحة المعركة"، "وطنك يغرق في مستنقع لا قِبَل لك به"، "اكتفِ بنطق كلمة شكراً"، "بدون دعمنا لا تملك أي أوراق للبقاء"، "أنت في موضع لا تُحسد عليه"، "تقامر بمصائر الملايين من مواطنيك"، "قدمنا لقواتك المسلحة أرقى المعدات العسكرية"، "تعاني من نزيف حاد في صفوف مقاتليك"، "أظهر بعض الامتنان".
وبلغت الفجاجة الدبلوماسية ذروتها حين تخلى ترامب عن أبسط قواعد البروتوكول الرئاسي، ممتنعاً حتى عن مرافقة ضيفه عند انصرافه، وقد كشفت شبكة "فوكس نيوز" في تقرير، أن الرئيس الأمريكي طلب من نظيره الأوكراني مغادرة المقر الرئاسي على وجه السرعة، في خرق فاضح لكل تقاليد الضيافة الرسمية.
في المقابل، لم يقف الرئيس الأوكراني موقف المتلقي السلبي للإهانات، بل رد بسهام نارية مصوبة نحو ترامب ومساعديه، متسائلاً: "أي دبلوماسية تلك التي تتشدقون بها؟ هل وطأت أقدامكم يوماً أرض أوكرانيا؟"، متبعاً ذلك بسلسلة من الاتهامات المباشرة التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء المتعارف عليها في المحافل الدولية.
دبلوماسية الإهانة: ترامب وفن تحقير الحلفاء
في عالم الدبلوماسية الرفيعة، حيث تُصاغ العبارات بعناية فائقة وتُوزن الكلمات بميزان الدقة، يبرز دونالد ترامب كظاهرة استثنائية تتحدى كل الأعراف المتبعة منذ عقود طويلة، فقد طوَّر الرئيس الأمريكي أسلوباً فريداً في التعامل مع نظرائه من قادة العالم، قوامه الاستخفاف المتعمد والإذلال العلني، متجاوزاً في ذلك حتى الخطوط الحمراء مع أقرب الحلفاء التاريخيين لبلاده.
تجلت هذه النزعة التحقيرية المتأصلة في حادثة صادمة الأسبوع المنصرم، حين تُرك الرئيس البولندي ينتظر على أعتاب البيت الأبيض لما يناهز التسعين دقيقة، في مشهد يعكس استخفافاً صارخاً بزعيم دولة حليفة تقف في طليعة الدفاع عن المصالح الأمريكية في شرق أوروبا، ولم يكن هذا المشهد سوى حلقة في سلسلة متصلة من الإهانات الدبلوماسية المدروسة.
وفي مشهد آخر من مشاهد الاستعلاء الرئاسي، وجد إيمانويل ماكرون، رئيس الجمهورية الفرنسية، نفسه مضطراً لعبور ردهات البيت الأبيض وحيداً دون أدنى مراسم استقبال، في خرق فاضح للبروتوكول المتبع مع رئيس إحدى أقدم الديمقراطيات في العالم وحليف تاريخي للولايات المتحدة.
أما ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند، فلم يسلم من سهام التحقير الترامبية خلال زيارته لواشنطن، إذ لم يتردد الرئيس الأمريكي في نعته علناً على منصات التواصل الاجتماعي بـ"المفرط في الثرثرة"، متجاهلاً بذلك كل اعتبارات اللياقة الدبلوماسية مع قائد دولة تمثّل سوقاً استراتيجيةً للمصالح الأمريكية.
حتى بريطانيا، الشريك الاستراتيجي الأقرب تاريخياً للولايات المتحدة، لم تنجُ من وابل الاستخفاف الترامبي، فخلال الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء البريطاني إلى البيت الأبيض، وعندما أشار المسؤول البريطاني إلى النضال المشترك ضد موسكو، قابله ترامب بسخرية لاذعة متسائلاً: "أتظن نفسك قادراً على مجابهة روسيا منفرداً؟"، في تشكيك صريح بقدرات حليف وقف إلى جانب واشنطن في أحلك الظروف.
وتتعرض كندا، الجارة الشمالية والحليف الوثيق، هذه الأيام لموجة غير مسبوقة من التحقير الرئاسي، فقد بلغت الفجاجة الدبلوماسية ذروتها حين قدّم ترامب "عرضاً" مهيناً لجاستن ترودو، رئيس وزراء كندا، مفاده بأنه إذا كان غير مستعد لقبول التعريفات الجمركية المقترحة، فربما يكون من الأجدى لكندا أن تتحول إلى الولاية الأمريكية الحادية والخمسين، في تعبير يعكس نزعةً استعماريةً متجذرةً تتنافى مع أبسط قواعد العلاقات بين الدول ذات السيادة.
المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا بلغة الأرقام
تكشف تقديرات مؤسسة "كيل"، المتخصصة في رصد التدفقات المالية الدولية، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استأثرت بما يقارب نصف إجمالي المساعدات العسكرية المتدفقة نحو كييف منذ اندلاع الأزمة، والبالغة قيمتها الإجمالية 130 مليار دولار، وقد تجاوزت القيمة الإجمالية للدعم العسكري الأمريكي المباشر عتبة الـ 64 مليار دولار، متفوقةً بذلك بفارق شاسع على جميع الدول المانحة الأخرى مجتمعةً، وتأتي ألمانيا في المرتبة الثانية بمساهمة تناهز 13 مليار دولار، تليها بريطانيا التي قدمت دعماً عسكرياً بقيمة 10.5 مليار دولار.
غير أن المشهد يتبدل جذرياً عند تبني معيار أكثر موضوعيةً في قياس حجم المساعدات، وهو نسبة الدعم العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة مانحة، وفق هذا المقياس الأدق، تتراجع الولايات المتحدة بشكل دراماتيكي في سلم الترتيب العالمي، حيث لا تمثّل مجمل مساعداتها العسكرية لأوكرانيا سوى 0.296% من ناتجها المحلي الإجمالي الضخم، ما يضعها في المرتبة السابعة عشرة عالمياً.
وتتربع الدنمارك على عرش الدول الداعمة لأوكرانيا وفق هذا المعيار النسبي، إذ تشكل مساعداتها العسكرية ما يناهز 2.038% من ناتجها المحلي الإجمالي، متجاوزةً بذلك الولايات المتحدة بأكثر من سبعة أضعاف، وتتبعها في المراتب اللاحقة دول البلطيق - إستونيا وليتوانيا ولاتفيا - إضافةً إلى فنلندا، وهي دول تشترك جميعها في خاصية جغرافية واحدة: حدودها المباشرة مع الأراضي الروسية، أو مع جيب كالينينغراد الروسي، ما يفسّر حرصها الاستثنائي على تعزيز القدرات الدفاعية الأوكرانية كدرع واقٍ لأمنها القومي.
وعلى الرغم من التواضع النسبي للمساعدات الأمريكية مقارنةً بحجم اقتصادها العملاق، إلا أن انقطاع هذا الشريان الحيوي عن كييف، ستكون له تداعيات كارثية على قدرتها في مواصلة المعركة، فالمساعدات العسكرية الأمريكية، بما تتضمنه من أنظمة تسليح متطورة وذخائر إستراتيجية، تمثّل العمود الفقري للقدرات العسكرية الأوكرانية في مواجهة الآلة العسكرية الروسية المتفوقة عدداً وعتاداً.
في المشهد الكلي للمساعدات الدولية، تبرز أوروبا كمانح رئيسي يتفوق مجتمعاً على الولايات المتحدة، فقد بلغت نسبة المساعدات الأوروبية الإجمالية 49.5% من إجمالي الدعم المقدم لأوكرانيا، متجاوزةً بذلك المساهمة الأمريكية البالغة 42.7%، أما النسبة المتبقية والبالغة 7.8%، فتتوزع على مساهمات دول أخرى متفرقة حول العالم.
في خضم السجال السياسي المحتدم، أثار تصريح الرئيس ترامب بشأن تقديم الولايات المتحدة مساعدات تناهز 350 مليار دولار لأوكرانيا، موجةً من التساؤلات والشكوك، وقد سارعت منابر إعلامية غربية، على رأسها صحيفتا "الإندبندنت" و"الغارديان" البريطانيتان، إلى التأكيد على عدم وجود أي أساس وثائقي يدعم هذا الادعاء، وخاصةً في ظل إحجام ترامب عن تقديم أي تفصيلات توضيحية تبرر هذا الرقم المتضخم بشكل مثير للريبة.
ما هي المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا؟
تبرز واشنطن كأحد أبرز الداعمين العسكريين لأوكرانيا في صراعها المستمر مع روسيا، ووفقاً لتقرير صحيفة "لوموند" الفرنسية، فإن أهم القطع العسكرية والمعدات الحربية التي صدّرتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى كييف تشمل:
ثلاث منظومات باتريوت مع ذخائرها المتخصصة: هذه المنظومة المتقدمة التي تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات، تم إرسالها لحماية الأجواء الأوكرانية من الهجمات الصاروخية الروسية، وتمثّل خط الدفاع الأخير ضد الضربات الإستراتيجية.
عدة مئات من منظومات الصواريخ التكتيكية بعيدة المدى (ATACMS): استخدمت أوكرانيا هذه الصواريخ التي يصل مداها إلى مئات الكيلومترات، لاستهداف مواقع في عمق الأراضي الروسية، ما أحدث تحولاً جذرياً في ديناميكيات المعركة.
أكثر من 40 منظومة صاروخية مدفعية عالية الحركة (هيمارس) مع ذخائرها: شكلت هذه المنظومات عنصراً حاسماً في المعارك على خطوط المواجهة الأمامية، وأثبتت فعاليةً استثنائيةً في استهداف مراكز القيادة والسيطرة ومستودعات الذخيرة الروسية.
31 دبابة أبرامز و45 دبابة T-72B: تمثّل هذه المدرعات الثقيلة إضافةً نوعيةً للقدرات الهجومية الأوكرانية.
مئات الناقلات المدرعة والعربات القتالية المخصصة للمشاة: إضافةً إلى آلاف المركبات الإضافية لتعزيز قدرات المناورة والنقل العسكري.
ملايين قذائف المدفعية والذخائر والقنابل اليدوية: شريان الحياة للعمليات القتالية اليومية.
مئات الآلاف من أنظمة مضادات الدبابات والدروع: تم تسليمها في بداية الحرب لصدّ الهجوم الروسي، وأثبتت فعاليةً في تدمير الآليات الروسية المتقدمة.
20 مروحية من طراز Mi-17: لتعزيز القدرات الجوية الأوكرانية في مجالات النقل والإسناد القتالي.
أكثر من 100 زورق دورية ساحلية ونهرية: إضافةً إلى صواريخ مضادة للسفن، لتأمين السواحل والممرات المائية.