الوقت - لا تزال رحى الأزمة الاقتصادية تدور في تركيا بلا هوادة، حتى بلغ سعر الدولار الأمريكي الواحد عتبة الست والثلاثين ليرة، بيد أن هذا السعر لا يعكس حقيقة السوق الحرة، إذ وجدت الحكومة نفسها مرغمةً على منح عوائد دولارية حتى على الودائع المقومة بالليرة التركية، في مسعى محموم للحيلولة دون نزوح الأموال من حسابات المواطنين، وتحولها إلى الدولار.
وبعبارة أوضح، فإن القيمة الحقيقية للدولار في الأراضي التركية تتخطى حاجز الأربعين ليرة، وهو عبء يثقل كاهل دولة يبلغ حجم وارداتها السنوية ما يربو على مئة مليار دولار من النفط، ومئتي مليار دولار من المواد الخام والسلع الغذائية والوسيطة.
وكان أركان حكومة أردوغان قد تعهدوا في أواخر عام 2024، بأن تشرق شمس العام الميلادي الجديد على أسواق تركية أكثر ازدهاراً، غير أن البيانات والإحصاءات الرسمية التي أفصحت عنها المؤسسات الاقتصادية التركية، تنبئ بأن عام 2025 لن يحمل في طياته بشائر الرخاء والازدهار.
لا تعقدوا الآمال على انحسار موجة التضخم
أطلق مهمت شيمشك، وزير المالية والخزانة في حكومة أردوغان ومدبر دفة السياسات الاقتصادية التركية، وعوداً عريضةً بأن يشهد عام 2025 تراجعاً جلياً في معدلات التضخم، غير أن أهل الاقتصاد والهيئات المستقلة وأرباب الصنائع والتجارة في تركيا، يجزمون بأن أحوال السوق والاقتصاد قد بلغت من التردي ما لم تبلغه من قبل.
ويُدلي هاكان كارا، عضو هيئة التدريس في جامعة بيلكنت وكبير الاقتصاديين السابق في البنك المركزي التركي، بدلوه في مشهد التضخم قائلاً: "لقد أفاضت الحكومة في الوعود بانحسار موجة التضخم خلال العام الجاري، بيد أن هذا ضرب من المحال، فقد أعلن الوزير عن نيته كبح جماح التضخم إلى حدود 21 بالمئة مع إسدال الستار على عام 2025، إلا أن هذه الغاية منيعة المنال، وتلك التوقعات تنمّ عن إغراق في التفاؤل".
ويستشرف كارا أن يناهز معدل التضخم الإجمالي 8 بالمئة في شهري كانون الثاني وشباط، ما يجعل الوصول إلى الهدف المتمثل في 21 بالمئة في ختام العام ضرباً من المستحيل، ويتساءل متعجباً: "إذا كنا نشهد ارتفاعاً في التضخم يبلغ 8 بالمئة في غضون شهرين فحسب، فكيف يُرتجى تحسن الأحوال في الأشهر القادمة؟ فالظروف الاقتصادية الراهنة ومعدلات التضخم المرتقبة في الربع الأول، تقف حائلاً دون بلوغ مرامي الحكومة".
وتأتي تصريحات كارا في أعقاب سجال محتدم اندلع في أواخر عام 2024 بين مهمت شيمشك من ناحية، وبين الاقتصاديين وأهل السوق من ناحية أخرى، فقد زعم الوزير أن الاقتصاد التركي قد شهد نهضةً وانتعاشاً بيّناً في عام 2024، في حين أكد أهل السوق أنه حتى في أكثر التقديرات تفاؤلاً، لن يهبط معدل التضخم عن عتبة 27 بالمئة حتى نهاية عام 2025.
عندما فاز أردوغان في عام 2023، كان الدولار الأمريكي يناهز إحدى وعشرين ليرة، وقد أطلق آنذاك وعوداً طنانةً بأن يهبط بالدولار إلى ما دون العشرين ليرة في أمد قريب، عبر إذكاء جذوة الأعمال وإنعاش الإنتاج والصادرات، غير أن هذه العملة الأجنبية قد حلقت اليوم إلى آفاق الست والثلاثين ليرة، وتكشف الأرقام أنه لم يقتصر الأمر على غياب المنشآت الإنتاجية والتجارية الجديدة، بل إن سيلاً من الوحدات القائمة قد رفع راية الإفلاس وأوصد أبوابه.
وقد كشف اتحاد الغرف وبورصات السلع التركية (TOBB) عن إحصائية تجلي مشهد تأسيس الشركات الجديدة، وأفول نجم المنشآت الإنتاجية والتجارية القائمة.
يرسم هذا التقرير صورةً قاتمةً تظهر قفزةً مذهلةً في عدد الشركات الموصدة في كانون الأول 2024 بنسبة تناهز 187.2 بالمئة، وفي الفترة عينها، تصاعد عدد التعاونيات المغلقة بنسبة 282.4 بالمئة، والمؤسسات الفردية المفلسة بنسبة 97.5 بالمئة، في حين هوى عدد الشركات الفردية الوليدة بنسبة 39 بالمئة، والتعاونيات الناشئة بنسبة 10.1 بالمئة.
وفي المحصلة النهائية، انحدر إجمالي عدد الشركات المستحدثة في عام 2024 بنسبة 10.2 بالمئة مقارنةً بالعام المنصرم، بينما تصاعد عدد الشركات المتوقفة بنسبة 21.4 بالمئة، من 25,883 إلى 31,416 شركة، وتنذر هذه الأرقام بتعاظم التحديات التي تعصف باستقرار واستدامة الأنشطة التجارية في تركيا.
ويضاف إلى مشهد الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في تركيا، ملامح أخرى تتجلى في التصاعد النسبي لإحصاءات إغلاق الشركات في شهر كانون الأول 2024، والارتفاع المقلق في قضايا الشيكات من دون رصيد، والقروض المصرفية المتعثرة، وتسارع وتيرة إصدار أحكام مصادرة الأموال.
أين يكمن الخلل؟
يجمع خبراء الاقتصاد وأرباب التحليل في تركيا، على أن اقتصاد بلادهم يرزح تحت وطأة معضلات بنيوية جسيمة، فالإنتاجية تشكو من وهن مزمن، وفي ميدان التصدير السلعي يتكئ النظام على عماد العمالة الرخيصة وتصدير المواد الخام، مع انحسار ملحوظ في القيمة المضافة.
وما فتئ العجز التجاري يتصاعد عاماً إثر عام، إذ تطغى الواردات على الصادرات، وفي خضم ذلك، لا يزال شطر وافر من الصناعات التركية قابعاً في ظلمات التخلف التقني، عاجزاً عن مواكبة ركب التطور التكنولوجي، والنهل من معين الآلات الحديثة والتقنيات المتقدمة.
وإلى جانب هذه المعضلات الهيكلية، تبرز أهمية عوامل جوهرية أخرى، كالتخبط في دروب السياسة الخارجية وما خلفه الاضطراب السياسي من تداعيات، ويرى ناقدو أردوغان أنه حوَّل دفة السياسة الخارجية والدبلوماسية إلى مطية لبلوغ مآربه الحزبية والسياسية، ضارباً بعرض الحائط المصالح الوطنية التركية.
ويسلط هؤلاء سهام النقد الصريح على خطوات أردوغان المتهورة والمتطرفة في دعم استقلال أتراك قبرص، مؤكدين أن هذا النهج، مقروناً بمغامرات أخرى في شرق المتوسط، قد دفع الدول الأوروبية إلى النأي بنفسها عن الساحة التركية.
كما ألقى التوتر والصراع السياسي المستعر بظلاله القاتمة على المناخ الاجتماعي والاقتصادي التركي، ما أخمد جذوة الحماس في نفوس أرباب الصناعات وأضعف قدرتهم على العمل، فآثر كثيرون منهم نقل ثرواتهم إلى البلدان الأوروبية، يجري هذا في وقتٍ يعزف فيه المستثمرون من أمريكا وأوروبا والصين، عن ضخّ أموالهم في الأراضي التركية.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، وبالتزامن مع التصاعد المطرد في معدلات التضخم، تنامت ديون الحكومة والقطاع الخاص للمصارف الأجنبية، ولا يلوح في الأفق المنظور ما يبشّر بانفراج أو تحول إيجابي.