الوقت - مع إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، انطلقت الاحتفالات في قطاع غزة ومدن الضفة الغربية ومخيمات الشتات الفلسطيني، حيث جسدت المشاهد فرحة النصر التي طال انتظارها بعد عدوان إسرائيلي دام قرابة الشهرين.
امتلأت شوارع غزة بالحشود التي رفعت الأعلام الفلسطينية ورايات الفصائل، وأطلقت الألعاب النارية، وهتفت للمقاومة التي نجحت في الصمود أمام واحدة من أكثر الهجمات الإسرائيلية شراسة.
لم يكن هذا الفرح عابراً أو مجرد تعبير عن السعادة بوقف القتال، بل كان إعلاناً عن إرادة شعب لم تهزمه آلة الحرب الإسرائيلية، ولم تستطع الحصار والدمار أن تكسر عزيمته. ومع ذلك، كان الفرح مشوباً بالحذر، فقد عانى القطاع خلال الأشهر الماضية من تدمير غير مسبوق، ووصل عدد الضحايا إلى عشرات الآلاف، وهو ما جعل الاحتفال يمتزج بدموع الفقدان والحسرة على الشهداء الذين لم يتمكنوا من رؤية لحظة الانتصار.
ورغم الإعلان عن هدنة "مفتوحة"، فإن المخاوف لا تزال قائمة بين الفلسطينيين، خصوصاً أن تجاربهم السابقة علمتهم أن إسرائيل قد تعاود قصفهم في أي لحظة، حتى في ظل اتفاقات التهدئة. فقد شهد اليوم التالي لإعلان الاتفاق غارات إسرائيلية أسفرت عن استشهاد العشرات، مما زاد من الشعور بعدم الثقة تجاه نوايا إسرائيل، وترك التساؤل معلقًا: هل ستكون هذه الهدنة مقدمة لحل طويل الأمد أم مجرد استراحة مؤقتة قبل جولة أخرى من القتال؟
إسرائيل في صدمة وخيبة أمل
على الجانب الآخر، لم يكن وقع وقف إطلاق النار في إسرائيل مماثلاً لما جرى في غزة. بدت إسرائيل في حالة إحباط سياسي وعسكري، حيث رأى الكثير من الإسرائيليين أن الحكومة أخفقت في تحقيق أهداف الحرب، وفي مقدمتها القضاء على حماس أو حتى نزع سلاحها.
رؤساء المستوطنات المتاخمة لقطاع غزة عبروا عن غضبهم، واصفين الاتفاق بأنه "استسلام وخضوع"، فيما شككوا في قدرة الجيش على منع تجدد القصف من غزة في المستقبل. بل إن بعضهم أكد أنه لن يعود إلى المستوطنات الحدودية إلا بعد التأكد من أن القتال لن يُستأنف.
أما في المشهد السياسي، فواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتقادات داخلية حادة، حيث امتنع عن عرض الاتفاق على المجلس الوزاري المصغر، مفضلاً اتخاذ القرار بشكل منفرد، خشية مواجهة معارضة قوية من داخل حكومته. وظهرت حالة من الانقسام الواضح في المجتمع الإسرائيلي بين من يرى أن وقف القتال كان ضرورياً لحماية حياة المدنيين والجنود، وبين من يعتبره خضوعاً لمطالب المقاومة الفلسطينية.
معادلة الأسرى والهزيمة السياسية
من أبرز الملفات الحساسة في الاتفاق كان تبادل الأسرى، وهو الأمر الذي شكّل ضغطاً كبيراً على الحكومة الإسرائيلية. فحماس فرضت شروطها بالإفراج عن مئات المعتقلين الفلسطينيين مقابل كل رهينة إسرائيلية، ما اعتبرته أوساط إسرائيلية دليلاً آخر على فشل القيادة في إدارة الحرب.
وجاءت مشاهد نقل الرهائن عبر سيارات الصليب الأحمر في غزة وسط حشود الفلسطينيين لتترك أثراً نفسياً عميقاً في الداخل الإسرائيلي، حيث بدا المشهد وكأنه إعلان صريح بأن المقاومة لا تزال قوية وقادرة على فرض شروطها، وهو ما دفع المحللين الإسرائيليين إلى وصف الاتفاق بأنه هزيمة سياسية لحكومة نتنياهو.
ورغم وقف إطلاق النار، فإن التساؤلات حول المستقبل لا تزال مفتوحة. في غزة، يدرك الناس أن هذه الهدنة لا تعني بالضرورة نهاية المعاناة، فإعادة الإعمار لا تزال في مراحلها الأولى، والحصار المفروض منذ سنوات قد يستمر بشكل أو بآخر، مما يجعل الفرح حذراً والأمل مشوباً بالخوف من نكث إسرائيل بوعودها.
أما في إسرائيل، فإن الغضب الشعبي ضد الحكومة لا يزال يتصاعد، فإخفاق الجيش في تحقيق نصر واضح، وفشل الاستخبارات في توقع سيناريو الحرب، وانعدام رؤية واضحة لليوم التالي، كل ذلك يجعل الموقف الإسرائيلي أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.
شكل اتفاق وقف إطلاق النار محطة فاصلة في الصراع، لكنه لم ينهِ المواجهة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فبينما احتفل الغزيون بنصرهم وسط الركام، عاش الإسرائيليون خيبة الأمل في حكومة لم تحقق وعودها. الأيام القادمة قد تحمل معها جولة جديدة من الصراع، لكن ما هو مؤكد أن الشعب الفلسطيني أثبت مرة أخرى أن صموده قادر على إعادة رسم المعادلة، رغم الفارق الكبير في موازين القوى.