الوقت - تتصاعد الأزمة في مدينة جنين ومخيمها بالضفة الغربية مع استمرار الحملة الأمنية التي تشنها أجهزة أمن السلطة الفلسطينية منذ أكثر من 18 يومًا، هذه الحملة، التي أطلق عليها اسم "حماية وطن"، باتت محورًا للصراع السياسي والإنساني، حيث تكشف بوادر تمرد داخل السلطة الفلسطينية ذاتها، في ظل انتقادات حادة تواجهها القيادة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس.
حملة أمنية غير مسبوقة: سياق وتداعيات
بدأت الحملة الأمنية في الـ 14 من ديسمبر الجاري تحت توجيهات مباشرة من الرئيس عباس، بهدف معلن هو إخلاء جنين ومخيمها وتحويلها إلى غزة 2، إلا أن النتائج على الأرض تشير إلى أزمة أعمق بكثير، حيث أسفرت الحملة عن مقتل 11 فلسطينيًا بينهم أطفال، وإصابة العشرات، بالإضافة إلى موجة اعتقالات واسعة.
ما يزيد من حدة الأزمة هو تزامن الحملة مع تصاعد الغضب الشعبي في جنين ومخيمها، حيث يعيش السكان ظروفًا إنسانية صعبة في ظل الحصار وقطع الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، كما شهدت اشتباكات مسلحة بين الأجهزة الأمنية والمقاومين، ما عمّق الانقسام وأظهر هشاشة الوضع الأمني.
الرئيس عباس في ورطة
يواجه الرئيس محمود عباس ضغوطًا متزايدة من الداخل الفلسطيني ومن أطراف دولية لوقف الحملة الأمنية وفتح باب الحوار، إلا أنه يصرّ على المضي قدمًا في العملية العسكرية، معتبرًا أنها الخيار الوحيد لتحقيق الاستقرار الأمني.
وحسب مصادر فلسطينية مطلعة، فإن عباس رفض جميع المبادرات المقدمة من قيادات فلسطينية ومجتمعية، وأصر على تنفيذ الحملة بغض النظر عن التكلفة البشرية والسياسية، بل ذهب إلى حد رفض رسالة قدمها ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح تطالب بوقف العمليات وفتح حوار مع المقاومين.
لم تكن تداعيات الحملة الأمنية مقتصرة على الشارع الفلسطيني فحسب، بل امتدت إلى داخل السلطة نفسها، فقد بدأت بوادر تمرد داخل حركة فتح، أبرزها إعلان القيادي أمين اجميل انشقاقه عن الحركة احتجاجًا على ما وصفه بـ"الجرائم" التي ترتكبها السلطة في جنين.
كتب اجميل في منشور على حسابه في فيسبوك: "أنا أمين اجميل أعلن انشقاقي عن حركة فتح، ولن أقبل بالاعتداء على أولادنا وشعبنا"، هذا التصريح يعكس حالة من الغليان داخل الحركة، حيث تتصاعد الانتقادات من قيادات بارزة، وتزايدت الاستقالات والانتقادات العلنية للسياسات الأمنية المتبعة.
هذا التمرد الداخلي يشير إلى أزمة ثقة عميقة داخل الحركة التي تُعد العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، ما يضع الرئيس عباس في موقف حرج ويزيد من عزلته السياسية.
تأتي حملة جنين في وقت حساس بالنسبة للسلطة الفلسطينية، حيث تواجه تحديات متزايدة على المستويين المحلي والدولي.
أدت الحملة إلى زيادة مشاعر الغضب والإحباط بين الفلسطينيين، الذين يرون في هذه العمليات اعتداءً على المقاومة الفلسطينية وتخاذلًا عن دعم غزة، هذا الغضب الشعبي يُنذر باضطرابات واسعة النطاق قد تهدد استقرار السلطة الفلسطينية، وخصوصًا في ظل التصعيد الإعلامي والاعتقالات التي تستهدف الصحفيين والمعارضين.
يرى محللون أن أحد أهداف الحملة هو إظهار قدرة السلطة الفلسطينية على فرض السيطرة الأمنية كجزء من محاولة إثبات جدارتها كشريك سياسي لـ"إسرائيل" والولايات المتحدة في أي تسوية سياسية مستقبلية، ومع ذلك، فإن التكلفة الإنسانية والسياسية لهذه الحملة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث تُتهم السلطة بالتنسيق الأمني مع "إسرائيل" على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية.
التحديات الاجتماعية في جنين: بين الفقر والمقاومة
تعتبر جنين، وخاصة مخيمها، رمزًا للمقاومة الفلسطينية منذ عقود، ويُعد المخيم، الذي يعيش فيه أكثر من 16 ألف شخص ضمن أقل من نصف كيلومتر مربع، بؤرة للفقر والظروف الاجتماعية الصعبة، هذا الوضع زاد من ارتباط سكانه بخيار المقاومة كوسيلة للتمسك بالهوية الوطنية.
يشير الخبراء إلى أن استمرار الحملة الأمنية قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية في المخيم، ما يعزز من روح المقاومة ويزيد من صعوبة تحقيق السيطرة الأمنية طويلة الأمد.
واتهمت السلطة الفلسطينية بالعمل على تكميم الأفواه من خلال استهداف الصحفيين والنشطاء الذين ينقلون وقائع الحملة الأمنية، الكاتبة السياسية لمى خاطر وصفت هذه الإجراءات بأنها محاولة لتضليل الرأي العام وتمرير الحملة دون انتقادات واسعة.
ترى خاطر أن هذه الممارسات لن تنجح في إسكات الشارع الفلسطيني الذي بات يُدرك أبعاد الحملة الحقيقية، وخاصة في ظل تصاعد التأييد للمقاومة وتراجع الثقة بالسلطة الفلسطينية.
يبقى السؤال الأهم: إلى أين تتجه السلطة الفلسطينية في ظل هذه الأزمة؟
قد يصر الرئيس عباس على استكمال الحملة بغية تحقيق أهداف سياسية وأمنية، ولكن هذا الخيار يحمل مخاطر كبيرة تتمثل في تفاقم الغضب الشعبي وتزايد التمرد داخل السلطة نفسها.
في حال تصاعد الضغوط الداخلية والدولية، قد تضطر القيادة الفلسطينية إلى البحث عن حلول سياسية تضمن التهدئة في جنين واستعادة الثقة بين الشعب والسلطة.
تكشف حملة جنين الأمنية عن أزمة متجذرة داخل السلطة الفلسطينية، تتعلق بفقدان الثقة الشعبية وظهور بوادر تمرد داخلي، وبينما يسعى الرئيس محمود عباس لإثبات قدرته على فرض السيطرة، يواجه تحديات هائلة قد تهدد استقرار السلطة ومستقبلها السياسي، مع استمرار الغضب الشعبي وتزايد الانتقادات، يبدو أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مصير هذه الحملة وأثرها على القضية الفلسطينية برمتها.