الوقت - يشكل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أحد أكثر النزاعات تعقيدا في العالم، ليس فقط بسبب طبيعته التاريخية والسياسية، بل لتعدد الأطراف الدولية المتورطة فيه بشكل مباشر أو غير مباشر.
في خضم العدوان المستمر على غزة، تبرز قضية الجنود الإسرائيليين من ذوي الجنسية المزدوجة، وخاصةً أولئك الذين يحملون الجنسية الفرنسية، كمثال صارخ على تشابك المصالح الدولية مع الجرائم الممنهجة ضد الفلسطينيين.
أظهرت تقارير حقوقية دولية مؤخرًا تورط آلاف الجنود الإسرائيليين مزدوجي الجنسية (فرنسية-إسرائيلية) في ارتكاب "جرائم حرب" و"جرائم ضد الإنسانية" في قطاع غزة، ما يثير تساؤلات عميقة حول مسؤولية فرنسا كدولة تدعي الديمقراطية، ودورها في محاسبة مواطنيها المتورطين في هذه الجرائم.
وفقًا لتقارير صادرة عن منظمات حقوقية فلسطينية ودولية، يشارك حوالي 4 آلاف جندي إسرائيلي يحملون الجنسية الفرنسية في العمليات العسكرية التي تستهدف قطاع غزة، ويُعتبر هؤلاء الجنود جزءًا من آلة الحرب الإسرائيلية التي ترتكب انتهاكات جسيمة، بما في ذلك القصف العشوائي، قتل المدنيين، والتعذيب.
من بين هؤلاء الجنود، يبرز اسم يونيل أونونا، الذي تورط في انتهاكات موثقة ضد الفلسطينيين، أظهر مقطع فيديو منشور مشاهد صادمة لمعتقلين فلسطينيين يتعرضون للإهانات باللغة الفرنسية، وعلامات تعذيب واضحة على أجسادهم، وتشير الأدلة إلى أن أونونا هو من قام بتصوير الفيديو، ما دفع منظمات حقوقية مثل مركز الميزان والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان إلى تقديم دعوى قضائية في محكمة باريس، ورغم ذلك، رفض المدعي العام الفرنسي الدعوى الأولية بحجة نقص الأدلة، ما أثار غضبًا حقوقيًا واسعًا ودفع المؤسسات لتقديم دعوى جديدة.
يشكل القانون الجنائي الفرنسي واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية مرجعيات واضحة للتعامل مع هذه الحالات، إلا أن الموقف الفرنسي الرسمي يظهر ازدواجية مقلقة:
الجنود الذين يحملون الجنسية الفرنسية ويخدمون في الجيش الإسرائيلي يتمتعون بحصانة فعلية، رغم أن القانون الفرنسي يتيح ملاحقتهم بناءً على جرائم الحرب الموثقة.
وفق اتفاقية باريس المناهضة لعمل المرتزقة، يمكن تصنيف الفرنسيين الذين يتطوعون في الجيش الإسرائيلي، دون أن يكونوا مزدوجي الجنسية، كمرتزقة، ويعاقب القانون الجنائي الفرنسي على ذلك بالسجن والغرامات، لكن تطبيقه ظل محدودًا رغم الأدلة.
بالمقارنة، تعاملت فرنسا بصرامة مع مواطنيها الذين انضموا لتنظيم "داعش" في سوريا، حيث قامت باعتقالهم، ومحاكمتهم، ومنعت أطفالهم من العودة، هذا التناقض يثير تساؤلات حول المعايير التي تعتمدها الحكومة الفرنسية في التعامل مع مواطنيها المتورطين في النزاعات الدولية.
الدعم الفرنسي غير المشروط ل"إسرائيل"
تأتي الانتقادات الحقوقية والسياسية لموقف الحكومة الفرنسية منسجمة مع الشهادات الموثقة عن تورط جنود فرنسيين في الجيش الإسرائيلي، فقد أشار النائب جيروم لوغافر إلى أن الحكومة الفرنسية تقدم دعمًا غير مشروط ل"إسرائيل"، متجاهلة الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها ضد الفلسطينيين، بما في ذلك قصف المستشفيات وقتل المدنيين.
تاريخيًا، يظهر الدعم الفرنسي ل"إسرائيل" بشكل واضح في مجالات عدة، من بينها تزويدها بالأسلحة، وتعتبر فرنسا من أكبر مصدري الأسلحة في العالم، ولا تزال تقف إلى جانب "إسرائيل" في المحافل الدولية، ما يعزز سياسة الإفلات من العقاب، هذا الدعم يثير انتقادات واسعة من شخصيات حقوقية وسياسية، التي ترى في هذا الموقف تناقضًا مع القيم التي تدعي فرنسا تمثيلها.
لا يقتصر التورط الفرنسي على الجنود، بل يمتد ليشمل المستوطنين الفرنسيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، يُتهم هؤلاء المستوطنون بممارسة العنف الممنهج ضد الفلسطينيين، بما في ذلك طرد العائلات الفلسطينية من منازلها، ويصف القانون الدولي الاستيطان بأنه جريمة حرب، وهو ما يجعل المستوطنين الفرنسيين عرضة للملاحقة القانونية.
من بين الأمثلة البارزة على هذا النوع من الجرائم، قضية الجندي الفرنسي-الإسرائيلي إيلور أزاريا، الذي أطلق النار على فلسطيني في رأسه بالخليل، رغم اعتراف القضاء الإسرائيلي بجرمه، حصل أزاريا على عقوبة مخففة للغاية، ما يعكس غياب العدالة ويعزز ثقافة الإفلات من العقاب.
تؤكد المؤسسات الحقوقية، مثل مركز الميزان والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، أن مجرد انتظار المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في هذه الجرائم لا يكفي، ويجب على فرنسا ممارسة اختصاصها القضائي الوطني لمحاسبة مواطنيها المتورطين.
تشمل الخطوات المطلوبة، إعداد قوائم بأسماء الجنود والمستوطنين الفرنسيين المتورطين، فتح تحقيقات قضائية عاجلة لجمع الأدلة والشهادات، وضع سياسات واضحة تمنع مشاركة الفرنسيين في جرائم ضد الإنسانية، سواء كانوا مزدوجي الجنسية أو متطوعين.
تضع قضية التورط الفرنسي في الجرائم المرتكبة في غزة فرنسا أمام اختبار حقيقي لمصداقيتها كدولة تدعي الديمقراطية تُعلن التزامها بحقوق الإنسان، وإن التهاون في محاسبة الجنود مزدوجي الجنسية والمتطوعين لا يُعد فقط إخفاقًا قانونيًا، بل يشكل أيضًا وصمة أخلاقية.
يتطلب الوضع الحالي تحركًا سريعًا وحاسمًا من الحكومة الفرنسية للوفاء بالتزاماتها القانونية والأخلاقية، وضمان أن تُحاسب جميع الأطراف المتورطة في الجرائم ضد الفلسطينيين.