الوقت - كشفت المصادر الأمنية اللبنانية يوم الأحد المنصرم عن استهداف محمد عفيف في غارة شنّها الكيان الصهيوني، مستهدفةً محيط مبنى حزب البعث العربي الاشتراكي اللبناني في منطقة رأس النبع ببيروت.
وفي تصريحات لقناة الميادين، أماط علي حجازي، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي اللبناني، اللثام عن تفاصيل هذه الجريمة النكراء قائلاً: "يندرج هذا الهجوم الغادر على مقرنا، ضمن سلسلة التهديدات المتواصلة التي نتعرض لها منذ اندلاع شرارة الحرب، المبنى المستهدف كان مقراً حزبياً خالصاً، يخلو من أي وجود مدني، ولطالما شهد هذا الصرح العديد من الاجتماعات الحزبية خلال فترة النزاع، وكان موقعه معلوماً للقاصي والداني".
وأكد حجازي نبأ استشهاد محمد عفيف مضيفاً: "إن وجود محمد عفيف في المبنى المستهدف كان محض صدفة، حيث استشهد هناك، تهدف هذه الهجمات الجبانة إلى إخماد الصوت الإعلامي والسياسي للمقاومة، الذي بات يؤرق أعداءنا بشدة، نحن ثابتون على دعمنا للمقاومة، التي ستنتصر حتماً، سواء كنا على قيد الحياة أم ارتقينا شهداء، الحاج محمد عفيف لم يحمل سلاحاً يوماً ولم يتولَّ قيادة أي وحدة عسكرية في حزب الله، بل كان قائداً فذاً للجناح الإعلامي".
لقد نعى حزب الله في بيانٍ رسمي فارسه الإعلامي، مباركاً استشهاده في سبيل القضية المقدسة للمقاومة، واصفاً إياه بالمجاهد الاستثنائي الذي لا يُشق له غبار، وشدد الحزب على المضي قُدماً في درب الشهداء العظام، مؤكداً أن ذكراهم ستبقى محفورةً في صفحات المجد، وأن الكيان الصهيوني سيتجرع كأساً مُراً جزاء جرائمه الوحشية.
من هو محمد عفيف؟
في عام 1983، انضم عفيف إلى صفوف حزب الله، ليكون بذلك أحد الرواد المؤسسين لهذا الصرح المقاوم العظيم، ومنذ اللحظات الأولى، برز دوره المحوري في الهيكل التنظيمي للحزب، حتى أضحى مع تعاقب السنين أحد أبرز قاماته الاستراتيجية.
وفي عام 2014، تسلّم منصب المسؤول الإعلامي للحزب، حيث اضطلع بمهمة محورية في صياغة وإيصال رسائل المقاومة وتنسيق جهودها الإعلامية على الساحتين المحلية والدولية، وخاصةً في أحلك الظروف وأشدّ المواجهات ضراوةً مع الکيان الصهيوني.
وقبل اعتلائه سدة المسؤولية الإعلامية في حزب الله، تولى محمد عفيف قيادة دفة الأخبار والبرامج السياسية في قناة المنار، المنبر الإعلامي الرسمي للحزب، وفي هذا المنصب الحساس، أشرف بحنكة على رسم وتنفيذ الاستراتيجيات الإعلامية، الرامية إلى ترسيخ خطاب المقاومة وتعزيز مواقفها السياسية.
لقد تميّز عفيف بنسج شبكة علاقات استثنائية مع القيادات العليا لحزب الله، فقد تبوأ منصب المستشار الإعلامي للسيد حسن نصر الله، الأمين العام الشهيد للحزب، وارتبط بعلاقة وطيدة مع السيدعباس الموسوي، الأمين العام السابق، وهذه الروابط الراسخة عززت مكانته كأحد أبرز صناع القرار في أروقة الحزب.
يُعدّ محمد عفيف جوهرة تاج الإعلام المقاوم في لبنان، فقد تجلت شجاعته الفذة مؤخراً في مؤتمر صحفي، حيث واجه تهديدات الكيان الصهيوني بكلمات نارية قائلاً: "نحن من نستخف بالهجوم ذاته، فكيف لنا أن نرتعد من مجرد التهديد؟ إرادتنا من حديد، والمقاومة شامخة کالجبل الراسخ".
اضطلع عفيف بدور محوري في صياغة وإيصال مواقف حزب الله، مُشيداً جسوراً بين الحركة والمنابر الإعلامية، فمن خلال اللقاءات الصحفية والمؤتمرات الإعلامية، كان يعرض استراتيجيات الحزب ورؤاه، يُعتبر محمد عفيف درة تاج الإعلام في حزب الله، نجح في حياكة نسيج متين من العلاقات الإعلامية، مستثمراً خبرته الاستثنائية في ترسيخ أيديولوجية الحزب والذود عن مواقفه في شتى المحافل.
أهداف تل أبيب من اغتيال عفيف
يتجلّى في المشهد الراهن أن الكيان الصهيوني، الذي يستشعر رُعباً وجودياً من انكشاف فظائعه أمام المنابر الإعلامية العالمية، والذي أودى بحياة ما يناهز المئتين من حملة الأقلام والكاميرات في ساحتي غزة ولبنان، كان يرى في شخص محمد عفيف حاجزاً منيعاً يحول دون تنفيذ مخططاته المشبوهة.
ومن المنطلقات الاستراتيجية التي دفعت بقادة الاحتلال نحو اتخاذ قرار التصفية، أن هذا القيادي البارز في حزب الله، بما يمتلكه من قدرات إعلامية فائقة وكاريزما خطابية آسرة، وعبر سلسلة مؤتمراته الصحفية المتتالية، استطاع إحباط المساعي النفسية والدعائية للكيان الصهيوني في أعقاب هجمات المسيّرات واستهداف المنظومة القيادية للمقاومة، وقد برع في تحصين الجبهة الداخلية اللبنانية نفسياً في مواجهة الهجمة الإعلامية المعادية، من خلال بثّه معلومات موثوقة ودقيقة تعكس متانة البنيان الداخلي لحزب الله، وإنجازات مقاتليه الميدانية المتواصلة.
وفي خضم الفترة التي كان فيها الكيان الصهيوني يطلق تهديداته المتتالية باغتيال قيادات حزب الله، برز عفيف في المشهد العام متحدياً تلك التهديدات، موجّهاً أقوى الخطابات صرامةً وحزماً في وجه الکيان، وبهذا الموقف البطولي، جسّد نقيضاً صارخاً لقادة تل أبيب المتحصنين في ملاجئهم المحصنة على أعماق عشرات الأمتار تحت الأرض، حيث تجلى حضوره في الصفوف الأمامية للمواجهة، مؤكداً أن تهديدات الکيان لن تنال من عزيمة قيادات المقاومة في مواصلة مسيرة النضال.
وفي سياق متصل، يتجلى أن الرأي العام في الأراضي المحتلة قد فقد ثقته تماماً في سرديات محكمة الرقابة الصادرة عن المنابر الصهيونية، وبات يستقي معلوماته عن مجريات المعركة الميدانية حصراً من خلال تصريحات وبيانات قادة حزب الله.
انكشاف الأزمة الإعلامية الصهيونية
كشفت الدراسات الاستقصائية التي أجراها الباحثان "يوفال كارنيل" و"أميت لافي دينور" في مايو/أيار 2024، عن تصدّع غير مسبوق في المنظومة الإعلامية الصهيونية، فمنذ ملحمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تشهد المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية انهياراً دراماتيكياً في مصداقيتها، حيث كشفت الاستطلاعات العلمية أن نسبةً ضئيلةً للغاية، لا تتجاوز 20% من سكان الأراضي المحتلة، ما زالت تضع ثقتها في القنوات الإعلامية الرئيسية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن الجزم بأن تصدّر عفيف للمشهد الإعلامي المقاوم، شكّل عقبةً کبيرةً أمام المساعي المحمومة لحكومة نتنياهو الحربية في السيطرة على دفة المشهد الداخلي المتصدع في الكيان المحتل، وخاصةً في ظل التصاعد الحاد للأصوات المنتقدة لمسار العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية، وعليه، لم يجد الكيان الصهيوني مناصاً من اللجوء إلى خيار التصفية الجسدية لهذا القيادي في حزب الله.
بيد أن رهان الکيان على إسكات صوت المقاومة اللبنانية باغتيال عفيف، سيثبت فشله الذريع، إذ مع كل صاروخ يدك حصون المحتل، سيتعالى صدى الشهداء الأبرار من أمثال عفيف في منابر الإعلام العالمية بقوة أشدّ وتأثير أعمق، مؤكداً أن دماء الشهداء الزكية ستظل مشاعل متوهجة تنير درب المقاومة، وتلهم الأجيال المتعاقبة.