الوقت - في خضم عام من المواجهات العسكرية المحتدمة على الجبهة الشمالية للأراضي المحتلة، إثر الحرب المستعرة في غزة، اتخذت حكومة نتنياهو المتطرفة قراراً مصيرياً بتصعيد الصراع مع لبنان، وفي خطوة وصفت بالمقامرة الكبرى، أقدمت يوم الجمعة الماضي على استهداف السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، ومجموعة من القيادات البارزة في المقاومة اللبنانية.
إن رحيل القائد الاستثنائي لحزب الله، قد دفع المنطقة إلى حافة هاوية من عدم الاستقرار غير المسبوق، ما أثار تكهنات واسعة حول احتمالات التصعيد الشامل للصراع، بيد أن غياب شخصية محورية بحجم السيد نصر الله عن قيادة المقاومة اللبنانية، مع استمرار اشتعال جبهات القتال في الجنوب والشمال، قد فتح الباب أمام تساؤلات جوهرية وسيناريوهات متباينة.
وفي هذا السياق الدقيق، أجری موقع "الوقت" حواراً مع الخبير في شؤون غرب آسيا السيد جعفر قنادباشي، لاستشراف مآلات هذا التحول الجيوسياسي الخطير.
الوقت: يتفق نخبة المحللين الإقليميين، وحتى أبرز الخبراء الغربيين والصهاينة، على أن غياب الشخصية الكاريزمية للسيد حسن نصر الله، لن يؤدي إلى تصدع البنية الهيكلية لحزب الله اللبناني، كما أن فرضية توقف العمليات العسكرية للمقاومة ضد الأراضي المحتلة في أعقاب استشهاد السيد حسن، تبدو ضرباً من الخيال، وفي ضوء هذا التقييم، ما هي الدوافع الحقيقية الكامنة وراء إقدام الكيان الصهيوني على هذه المغامرة الخطيرة باغتيال السيد نصر الله؟ وما هي الأهداف الاستراتيجية المستترة لتل أبيب من وراء هذه الجريمة ذات الأبعاد الجيوسياسية الخطيرة؟
السيد جعفر قنادباشي: راهناً، يعاني الكيان الصهيوني من حالة تخبط استراتيجي غير مسبوقة، نتيجة تفاقم الأزمات الداخلية المتشعبة، ومع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لعملية طوفان الأقصى النوعية، وإخفاقهم الذريع في تحقيق أي مكاسب استراتيجية في هذه الحرب المفتوحة، وجدوا أنفسهم في مأزق وجودي حاد، وللهروب من هذا المستنقع الاستراتيجي، لجؤوا إلى مغامرة عسكرية محفوفة بالمخاطر على الأراضي اللبنانية.
فضلاً عن ذلك، ساد وهم في أوساط صناع القرار في تل أبيب، مفاده بأن حزب الله كان بصدد إطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق ضد العمق الاستراتيجي للكيان المحتل، تزامناً مع الذكرى السنوية لطوفان الأقصى، وبناءً عليه، شرعوا في تنفيذ مخطط استباقي يحاكي في جوهره استراتيجية حرب الأيام الستة عام 1967، في محاولة يائسة لتقويض القدرات العسكرية للطرف المقابل قبل اندلاع المواجهة المرتقبة.
ونظراً لعجز المنظومة العسكرية الصهيونية عن خوض مواجهة مباشرة مع خصم استراتيجي بحجم حزب الله، فإنهم يلجؤون إلى خيارات متعددة الأبعاد في محاولة لإعادة رسم خارطة توازنات القوى الإقليمية لمصلحتهم، ومن بين هذه الأدوات الاستراتيجية الماكرة، محاولة استدراج القوى العظمى إلى دائرة الصراع مع حزب الله، سعياً للحصول على غطاء دولي لتحركاتهم العدوانية على الساحة اللبنانية.
ثانياً، عمدوا إلى تهيئة مسرح الأحداث بما يوحي ظاهرياً بعدم رغبتهم في الاصطدام مع حزب الله، مدّعين تسريح جنود الجيش في إجازات، والسعي الحثيث لتحقيق وقف إطلاق النار، بيد أنهم، على أرض الواقع، سعوا جاهدين لإضعاف شوكة الخصم قبيل اندلاع أوار المعركة، وذلك عبر استهداف منظومات الاتصالات وتصفية قادة المقاومة البارزين، نظراً لعجزهم عن خوض حرب شاملة مع حزب الله.
غير أن صناع القرار في تل أبيب قد جانبهم الصواب في استراتيجيتهم الكلية، إذ أقدم الصهاينة على اغتيال السيد حسن نصر الله في لحظة كان فيها على ذروة شعبيته بين الشعوب، وفي المقابل، أضحى الكيان الصهيوني اليوم أكثر الأنظمة مقتاً في المنطقة والعالم أجمع، ولا شك أن هذا العمل الإرهابي الجبان سيؤجج نيران الغضب العالمي ضدهم، ما سيفضي حتماً إلى طي صفحة الصهاينة في منطقة غرب آسيا إلى الأبد.
إن هذه الجريمة النكراء ستؤدي حتماً إلى تصاعد شعبية حزب الله، وتعاظم مكانته بين شعوب المنطقة والعالم، ولن تُفضي هذه الاستراتيجية الرعناء، مهما طال أمدها، إلى إضعاف حزب الله أو النيل من عزيمته.
الوقت: ما الدلالات التي يحملها استشهاد السيد حسن نصر الله في الضاحية، ذلك المعقل الذي كان يُعدّ الأكثر عرضةً للخطر من الناحية الأمنية في بيروت ولبنان؟ إن المنطق الاستراتيجي يملي على القادة الأمنيين الاحتماء بمواقع بالغة التحصين، متوارين عن أعين الأعداء المتربصين، فما السر الكامن وراء انعقاد هذا الاجتماع ذي الأهمية القصوى في قلب الضاحية تحديداً؟
السيد جعفر قنادباشي: على الرغم من أن الضاحية الجنوبية لا تندرج ضمن المناطق المستباحة أمنياً نظراً لذودها عن حدود الأراضي المحتلة، إلا أن القيادات العليا لحزب الله لم تكن لتتصور، ولو للحظة، أن يُقدِم الكيان الصهيوني على توجيه ضربة إلى عمق جنوب بيروت في ظل المعطيات الراهنة، ناهيك عن لجوئه إلى استخدام قنابل فائقة القوة مضادة للتحصينات - وهي سابقة خطيرة تُسجل للمرة الأولى في تاريخ المواجهات بين الطرفين، ولولا وقوع هذه الجريمة النكراء، التي هزت أركان المنطقة، لكان مسار الأحداث قد انعطف نحو مآلات مغايرة تماماً.
وما يجدر ذكره أن الضاحية الجنوبية لبيروت تمثّل الموئل الرئيسي للطائفة الشيعية، وكان السيد نصر الله يتخذ من هذه المنطقة، الآهلة بالسكان، مقراً لإقامته ومركزاً لنشاطاته.
الوقت: ما هو مصير القيادة والقوة والمكانة التي يتمتع بها حزب الله في أعقاب استشهاد السيد حسن نصر الله؟
السيد جعفر قنادباشي: يتميز الهيكل التنظيمي لحزب الله، بوصفه حركة مقاومة، بتباين جوهري عن نظيره في المؤسسات العسكرية التقليدية، ففي حين تستلزم الأخيرة مسارات تدريبية متخصصة ودورات مكثفة في فنون القتال والسياسة والإدارة للارتقاء إلى المناصب القيادية العليا، نجد أن قادة حزب الله الذين تبوؤوا مراكز القيادة، لم يخضعوا بالضرورة لمثل هذه المنظومة التدريبية المعقدة، إذ اقتصر إعدادهم على التمرس في استخدام الأسلحة الخفيفة، دون امتلاك أذرع بحرية أو جوية، ما منحهم مرونةً استراتيجيةً فائقةً في التخطيط والتنفيذ.
يتسم حزب الله بهيكلية تنظيمية ذات طابع أيديولوجي متين، ما يُيسر عملية تداول القيادة وانتقالها بسلاسة، وفي هذا النمط من التنظيمات المقاومة، يتمتع كل مقاتل بهامش من الاستقلالية في صنع القرار، وفقًا لمقتضيات الميدان ومتغيراته، كما أن استراتيجية الحرب غير المتماثلة التي يتبناها الحزب، تمنحه قدرةً فائقةً على التكيف مع شتى القرارات والمستجدات، متحررًا من القيود الصارمة التي تكبّل الجيوش النظامية.
ونظرًا لوفرة الكوادر المؤهلة وعمق خبراتهم التراكمية، فإن حزب الله يمتلك رصيدًا وافرًا يؤهله لاختيار خليفة كفء للسيد نصر الله، وقد أكد الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام للحزب، أن المنظومة القيادية للحزب لا تواجه أي عقبات جوهرية في عملية اختيار قائد جديد، يحمل الراية ويواصل المسيرة.
الوقت: ما هو المسار المتوقع لمجريات الصراع بين حزب الله والكيان الصهيوني في أعقاب استشهاد السيد نصر الله؟
السيد جعفر قنادباشي: في المشهد الراهن، وفي ظل تصاعد وتيرة الاغتيالات الأخيرة، يتجلى حزب الله في عيون قادة الكيان الصهيوني كأسد جريح، ما يشكّل تهديدًا وجوديًا محتملاً لهم، وعليه، سيسعون إلى سبر أغوار قدرات حزب الله وتقويض فاعليته العملياتية، قبل الإقدام على أي خطوة متهورة، بيد أن المؤشرات توحي بأن حزب الله يعكف على إعداد العدة لعمليات نوعية ذات ثقل استراتيجي ضد الأراضي المحتلة، مع ترجيح استهداف المفاصل الحيوية للكيان الإسرائيلي.
لقد تجاوز الكيان الصهيوني، بما اقترفه من جرائم وحشية، كل الأعراف الإنسانية والمواثيق الأخلاقية، ما جرّده من أي غطاء شرعي للدفاع عن نفسه على المسرح الدولي، وبناءً عليه، فإن تصعيد حزب الله لوتيرة عملياته ضد الأراضي المحتلة، لن يعرضه لأي اتهامات بتأجيج فتيل التوتر، أو انتهاك قوانين الحرب من قبل أي طرف دولي، إذ تندرج هذه الأعمال في إطار الدفاع المشروع في مواجهة عدو محتل تجاوز كل الخطوط الحمراء بوقاحة صارخة.
إن المحرقة الدموية التي أشعلها الصهاينة في جنوب لبنان، تمنح حزب الله صكًا مفتوحًا لتأديب المعتدي وردعه، دون أن يتعرض لأي استنكار أو ملامة على الساحة الدولية.
الوقت: إن محور المقاومة قد أبدى ردود فعل عميقة وواسعة النطاق إزاء استشهاد سيد المقاومة، وفي ضوء وجود غرفة قيادة مشتركة تعمل في إطار استراتيجية وحدة الساحات، ما هو تقييمكم للإجراءات والخطط التي سيتخذها محور المقاومة رداً على اغتيال السيد حسن نصر الله؟
السيد جعفر قنادباشي: من المؤكد أن مستوى التنسيق بين فصائل المقاومة سيرتقي إلى آفاق غير مسبوقة، وستظل أي قرارات تُتخذ محاطةً بسرية تامة حتى لحظة التنفيذ، وما لا مراء فيه، أن الكيان الصهيوني يعاني من ثغرتين استراتيجيتين جوهريتين:
الأولی: لم يسبق للصهاينة أن سعوا إلى خوض حرب شاملة، بل دأبوا على اتباع سياسة تقليص أمد المواجهات مع فصائل المقاومة إلى حدودها الدنيا، وهو النهج الذي تجلى بوضوح في سلسلة الحروب التي شنها هذا الكيان ضد فصائل المقاومة الفلسطينية على مدار العقد المنصرم.
الثانية: يشهد المجتمع الصهيوني حالةً من الرفض الجماهيري الواسع لسياسات نتنياهو والعدوان على غزة، حيث تتعالى الأصوات المطالبة بإنهاء هذه الحرب في أسرع وقت ممكن، ولا سيما بعد الإخفاق الذريع في تحقيق أهدافها المعلنة، ومن البديهي أنه مع انفتاح الجبهة اللبنانية، وما سيستتبعه حتماً من ردود فعل لبنانية حازمة على تحركات الکيان، فإن هشاشة الكيان الصهيوني وقابليته للانكسار ستتفاقم بصورة دراماتيكية.
والنقطة الأخری الجديرة بالتدبر، هي الهلع المستشري في أوصال الكيان الصهيوني من احتمال استطالة أمد الصراع، ومن الاستراتيجيات الناجعة التي يمكن لفصائل المقاومة انتهاجها لإلحاق الضرر الفادح بالكيان الإسرائيلي، هي إطالة أمد المواجهة معه إلى أقصى حد ممكن، فالمؤسسات الأمنية والمستوطنون الصهاينة لن يتسامحوا مع انخراط جيشهم في حرب مديدة، ولعل التصعيد الوحشي للجرائم في لبنان كان يرمي إلى بث الرعب والفزع في قلوب اللبنانيين، سعياً لإنهاء المواجهة مع حزب الله في أسرع وقت مستطاع.
في المقابل، تتبنى الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفصائل المقاومة استراتيجيةً مغايرةً جذرياً، تقوم على شن حرب استنزاف طويلة النفس ضد الكيان الصهيوني، بهدف إلحاق أضرار جسيمة به على المدى البعيد، فإذا نجح محور المقاومة في شل الحركة في عدة مدن محورية، سيجد الصهاينة أنفسهم في مأزق عصيب يستعصي على الحل.
وفي الوقت الراهن، نشهد بالفعل إغلاق عدد وافر من المصانع والمنشآت الصناعية الاستراتيجية في الأراضي المحتلة، وهو اتجاه من شأنه، إذا ما استمر على المدى الطويل، أن يزيد من هشاشة الكيان الصهيوني اقتصادياً، ويجعله أكثر عرضةً للانهيار والتفكك.