الوقت - لقد ارتقت مسيرة الأربعين الحسينية (عليه السلام)، لتتبوأ مكانةً مرموقةً بين أعظم الفعاليات العالمية من حيث الحشد البشري، مستقطبةً أفرادًا من شتى الأعراق والجنسيات والمعتقدات.
إن الغايات السامية التي من أجلها نهض الإمام الحسين (عليه السلام) وآل بيته الكرام وصحبه الأبرار، الذين بذلوا في سبيلها أرواحهم الزكية، قد تركت أثرًا عميقًا في وجدان الأمة، حتى غدت، بعد مرور أربعة عشر قرنًا، منارةً يهتدي بها الملايين من الشيعة، الذين يتوافدون سنويًا إلى كربلاء المقدسة، لإحياء ذكرى رمز التضحية والصمود في الإسلام.
وعلى الرغم من أن هذا الحدث التاريخي الجليل، يمثّل رمزًا للتآلف والوحدة في نظر شيعة العالم، إلا أنه يثير قلق أعداء الإسلام، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى في تلاحم المسلمين تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية.
وقد بلغ الأمر حدًا دفع أحد كبار القادة العسكريين الأمريكيين، قبل سنوات قليلة، إلى وصف مسيرة الأربعين بـ "الأفعى السوداء"، معربًا عن جزعه من تداعياتها السلبية على المصالح الغربية في المنطقة.
ولم يلبث أن تحقق تنبؤ هذا القائد العسكري الأمريكي البارز، إذ أضحت مسيرة الأربعين، وما انبثق عنها من خطاب المقاومة المتنامي في أرضها، عنصرًا جيوثقافيًا محوريًا، وحجر الزاوية في إعادة تشكيل العلاقات بين طهران وبغداد، واستكمال الممر البري للمقاومة، وأخيرًا، تأسيس أهم وأكثر التحالفات الإقليمية تأثيرًا في العصر الراهن.
وقد استحال هذا التحالف اليوم، إلى شوكة في خاصرة المصالح غير المشروعة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وأسهم، فضلاً عن رسم نظام إقليمي جديد على أساس الجيوبوليتيك المقاوم، في التحوُّل إلى لاعب محوري لا يمكن تجاهله على مسرح النظام الدولي المتغير، وفي خضم صراع القوى العظمى.
وعليه، فإنه في حين تُعدّ ظاهرة محور المقاومة، في أساسها، مقولةً جيوثقافيةً (باعتبارها نسيجًا معقدًا من التفاعلات بين القوة والثقافة والفضاء الجغرافي)، فإن الأربعين يتجلى، بلا ريب، كالعلامة المركزية التي تُضفي المعنى على الأسس الجيوسياسية للمقاومة، موسِّعةً عمقها الاستراتيجي في أرجاء المنطقة.
الدور المحوري للأربعين في تشكيل محور المقاومة
إن روح خطاب الشهادة والسعي وراء الحق المتجسدة في الأربعين، قد تغلغلت في صميم محور المقاومة، حيث أضحت هذه الجماعات في العقود الأخيرة، حصناً منيعاً يحول دون تحقيق المخططات الشريرة لأعداء الأمة الإسلامية الرئيسيين، ألا وهم الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، وقد تحولت المقاومة إلى خط الدفاع الأول، عن الرؤية السامية المتمثلة في تدمير "إسرائيل" وتحرير القدس الشريف.
ولقد كان انتصار حزب الله على الكيان الصهيوني وطرده من جنوب لبنان في مطلع القرن الحادي والعشرين، بمثابة فاتحة لسلسلة من الانتصارات الميدانية غير المتوقعة والمذهلة لتحالف قوى المقاومة على الصعيد الإقليمي.
وقد حدث هذا في وقت لم يكن حتى أكثر المحللين السياسيين والعسكريين تفاؤلاً، يتوقعون أي فرصة لنجاح مجموعة من حرب العصابات ضد جيش مدجج بالسلاح، ويُطلق عليه لقب "الجيش الذي لا يُقهر".
وکان هذا النصر التاريخي بمثابة مقدمة لانتصارات عظيمة أخرى، مثل حرب الـ 33 يوماً، مستندةً إلى الوعد العاشورائي بتفوق الدم على السيف، وفي السنوات اللاحقة، ومع مرور الوقت، أصبح هذا الرابط المبارك بين جماعات المقاومة في المنطقة، أكثر رسوخاً وقوةً.
وبالمثل، فقد تصدت جماعات المقاومة بكل قوة للمؤامرة التكفيرية الكبرى في سوريا والعراق، دفاعاً عن المقامات المقدسة وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونجحت في إحباط هذه الفتنة العبرية-الغربية.
وكان العديد من المحللين والدول الداعمة للإرهابيين في ذلك الوقت يأملون في النصر، لكنهم هُزموا أمام روح المقاومة وصمود المقاتلين المتمرسين في مدرسة عاشوراء، ما أعاد إلى الأذهان العامة ساحة كربلاء التي كانت مسرحاً للصراع بين الحق والباطل.
ويمكن أيضاً ملاحظة الإلهام المستمدّ من خطاب الأربعين بوضوح، في التطورات التي شهدها اليمن خلال العقد الماضي، فعندما تعرض هذا البلد لهجوم من قبل التحالف السعودي-الإماراتي المعتدي، وقف مقاتلو أنصار الله في وجه العدو بأقل الإمكانيات، مستلهمين من خطاب الأربعين ومبدأ عدم الاستسلام للظالمين.
وبفضل المقاومة التي أظهروها، أجبروا في النهاية المعتدين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والآن، ومع الإنجازات التي حققوها، نجحت أنصار الله في تغيير موازين القوى في شبه الجزيرة العربية لمصلحتهم في تحول تاريخي.
ونظراً لأن خطاب المقاومة يقوم على محورية هدف تدمير الكيان الصهيوني وتحرير القدس، فقد هبّت هذه الجماعات فور هجوم الكيان الصهيوني على غزة، لدعم الشعب الفلسطيني المظلوم بكل قوة، وقد وجّهت ضربات قاسية للکيان، من خلال هجمات واسعة النطاق امتدت من اليمن والعراق إلى لبنان، وقد وصل الأمر إلى حدّ اعتراف المسؤولين الصهاينة، بأنهم فقدوا قدرتهم على الردع في مواجهة محور المقاومة، وأنهم غير قادرين على القتال على عدة جبهات.
الأربعون الحسيني، ملحمة طوفان الأقصى، وتشكُّل النظام الإقليمي الجديد على أساس جيوسياسية المقاومة
مثلما تجاوزت نهضة الإمام الحسين - عليه السلام - الحدود الثقافية والإنسانية، مُقدِّمةً للبشرية نموذجًا فريدًا في مناهضة الظلم والجور، فإن محور المقاومة، مستلهمًا روح الأربعين وفلسفتها السامية، يسعى حثيثًا لترسيخ مكانة الأمة الإسلامية وتعزيز حضورها في شتى الميادين الثقافية والاقتصادية والعسكرية.
إن غاية فصائل المقاومة الأسمى هي تحقيق الحرية والاستقلال، وبلورة قوة العالم الإسلامي لتكون ندًا للقوى الغربية والشرقية المهيمنة، وذلك على الأصعدة الوطنية والإقليمية والعالمية كافةً.
وفي هذا المضمار، تتصدر قوى الثورة الإسلامية وحركات الصحوة الإسلامية وجبهة المقاومة المشهد، حاملةً لواء هذه الجيوسياسية الجديدة، والعمليات التي تشنها إيران وفصائل المقاومة في المنطقة ضد مواقع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، إنما تهدف إلى اقتلاع جذور الاحتلال من أرض المجتمعات الإسلامية، تلك القوى التي لا تبغي سوى إذكاء نار الفتنة بين أبناء الأمة الإسلامية.
وفي حين أن التعاضد في مواجهة مخطط الإرهاب التكفيري، قد أفضى إلى تبلور محور المقاومة في المنطقة، فإن ملحمة طوفان الأقصى تُمثِّل منعطفًا تاريخيًا فارقًا في ميلاد نظام إقليمي جديد، قوامه جيوسياسية المقاومة، ومن الدعائم الراسخة لهذا النظام، استلهامًا لقيم أربعينية الحسين(عليه السلام) ومبادئها السامية، استئصال شأفة الظلم التاريخي الجاثم على كاهل الشعب الفلسطيني المظلوم، وذلك من خلال اجتثاث الغدة السرطانية المتمثلة في الكيان الصهيوني.
لقد أحدثت عملية طوفان الأقصى تحولات جذرية في المعادلات الداخلية لفلسطين المحتلة، وكذلك في التوازنات الإقليمية، فقد وقف المجاهدون الفلسطينيون بكل ما أوتوا من قوة في وجه طغيان المحتلين، حتى لا يسمحوا بسقوط أرضهم بالكامل في قبضة العدو الغاصب، وفي هذه المقاومة الباسلة، نجحوا في تآكل الأعمدة الداعمة للكيان الصهيوني، كما أسقطوا تمامًا الهيمنة العسكرية الأمريكية.
کما وجّهت فصائل المقاومة في الأشهر الأخيرة رسالةً واضحةً للغرب، مفادها بأن أي تغيير أو تحول في المنطقة، لا يمكن أن يتحقق دون إذن المقاومة، وعليه، فقد أصبحت الولايات المتحدة الآن عاجزةً ويائسةً أمام جماعات المقاومة، وباتت هيمنتها في المنطقة أكثر اضمحلالاً مما كانت عليه قبل عملية طوفان الأقصى.
ولكن كيف كان لهذه الانتصارات أن تتحقق لولا المنبع الصافي لمعارف الأربعين، والاقتداء بالمقاومة المظلومة للإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه؟ كيف يمكن تصور أن شعبًا بأيدٍ خاليةٍ يقاوم الوحشية الكاملة للصهيونية المدعومة من القوى الغربية وينتصر عليها؟
في ضوء هذه الحقائق، تدرك الولايات المتحدة جيدًا أن مسيرة الأربعين هي رمز لقوة المقاومة، وبالتالي فهي تخشاها بشدة.