الوقت - لقد كشفت الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على غزة خلال الأشهر الأحد عشر المنصرمة، عن أوجه قاتمة جديدة للصراع، حيث إن الأضرار الإنسانية والمادية الجسيمة الناجمة عنها، تستعصي على الشفاء السريع، وقد استحالت غزة الآن إلى تلٍّ من الأنقاض، مدفونة تحت 42 مليون طن من الحطام، وسيستغرق التخلص من ملايين الأطنان من الحديد والتراب جيلاً بأكمله.
إن الهجمات اليومية التي يشنها الصهاينة على المدنيين العزل في غزة، ليست وحدها النكبة التي حلت بالفلسطينيين، بل إن هؤلاء المحاصرين يكابدون أيضاً الويلات المصاحبة للحرب، كالمجاعة والجوع وتفشي الأمراض.
ومنذ الساعات الأولى، برزت إحدى أعظم التحديات التي واجهها الفلسطينيون في هذه الحرب، وهي إنقاذ الأرواح العالقة تحت الأنقاض، أو انتشال آلاف جثامين الشهداء المدفونين، ولا يملك أهالي غزة سوى أياديهم المجردة، لاستخراج أبنائهم من تحت أكوام الإسمنت والفولاذ، والعثور على المفقودين ورفات الشهداء.
في تقرير نشره موقع "الخليج أونلاين" عن الوضع المأساوي لإزالة الأنقاض في غزة، يتجلى حجم المآسي التي يواجهها سكان هذا القطاع المنكوب.
فوفقاً للتقرير، عجز أفراد عائلة منصور في حي معان، شرق مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، عن العثور على معدات أو آليات ثقيلة للبحث عن بقية أفراد الأسرة الذين اختفوا جراء القصف الجوي الغاشم، ما اضطرهم إلى الحفر يدوياً في محاولة يائسة للعثور على الأشخاص الثمانية، الذين ما زالوا محتجزين تحت أنقاض المنزل المستهدف.
وأدلى محمد منصور، ابن عم الضحايا المستهدفين، بتصريح قائلاً: كان المنزل مكوناً من ثلاثة طوابق ويؤوي خمسة وعشرين شخصاً، وقد تحوَّل إلى مجرد أثر بعد استهدافه بصاروخ أطلقته طائرة حربية صهيونية.
وأكد منصور في حديث خصّ به "الخليج أونلاين": لقد ضرب الکيان منزل أبناء عمومتي بصاروخ هائل، ما أودى بحياة ستة من الجيران، وأربعة عشر من قاطني المنزل، ونحن الآن نستعين بأيدينا العارية ووسائل في غاية البدائية للبحث عن رفاتهم.
وأردف قائلاً: هرعت فرق الدفاع المدني إلى موقع الكارثة، مستخدمةً معدات متواضعة في عمليات الحفر، ومع حلول الليل، تتوقف جهود البحث، لنعاود الكرة مع بزوغ فجر يوم جديد برفقة تلك الفرق، نستخدم أكفنا في النبش، وفي كل مرة نعثر على أشلاء الشهداء، غير أن الأمل ما زال متقداً في صدورنا للعثور عليهم أحياءً.
وكشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة عن رقم مهول، إذ لا يزال عشرة آلاف مفقود تحت أنقاض مئات المباني والمنازل التي طالتها يد الدمار الصهيوني، منذ بداية العدوان الغاشم، وعلى الرغم من تشبث سكان غزة بأمل العثور على ناجين تحت الركام، إلا أن فداحة الدمار وهوله تجعل هذا الأمل ضرباً من ضروب المستحيل.
وأكد الرائد محمود بازال، الناطق الرسمي باسم قوات الدفاع المدني في غزة، افتقار الجهاز للمعدات المتطورة اللازمة للبحث وإنقاذ المفقودين من تحت الأنقاض، وأوضح بازال في تصريح خاص لـ"الخليج أونلاين": "تواصل فرق الدفاع المدني مهمتها النبيلة بالتوجه إلى مواقع القصف والبحث عن المفقودين، مستعينةً بأدوات عفا عليها الزمن وبالغة البساطة".
واختتم حديثه قائلاً: نعاني من شحٍّ مدقع في المعدات والمركبات والآليات الثقيلة، وغيرها من الوسائل الضرورية للبحث عن المفقودين تحت أنقاض المنازل والمباني التي طالها القصف الهمجي، مقارنةً بما كان متاحاً لنا في الأيام الأولى للعدوان، و إن غياب هذه المعدات والآليات، يشكّل عائقاً جسيماً أمام الوصول إلى المفقودين واستخراج جثامين الشهداء من تحت الأنقاض.
المطالبات الحقوقية الإنسانية: نداءٌ عاجلٌ في ظل مأساة غزة
في ضوء الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، تتعالى أصوات المنظمات الحقوقية الدولية مطالبةً بوقفٍ فوري للأعمال العدائية، وفتح ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية العاجلة.
وفي هذا السياق، أطلق "المرصد الأوروبي المتوسطي لحقوق الإنسان" دعوةً ملحّةً للمجتمع الدولي، لاتخاذ إجراءات عاجلة تتمثل في نشر آليات خاصة وفرق متخصصة، وتهدف هذه الجهود إلى إزالة أنقاض المباني التي طالتها الغارات الإسرائيلية، وإنقاذ من قد يكون على قيد الحياة تحت الركام، واستعادة رفات آلاف الضحايا.
وفي تصريحٍ له، شدد رامي عبده، المدير التنفيذي للمرصد، على أن استمرار فقدان آلاف الفلسطينيين يُعدّ جريمةً إضافيةً بحق ذويهم، الذين يعانون من صدمات نفسية بالغة الشدة.
وأضاف قائلاً: إن استمرار وجود المفقودين تحت الأنقاض، سيترك ندوبًا عميقةً في نفوس آلاف العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، ما يعرضهم لصدمات نفسية وعاطفية لا يمكن تصورها.
كما دعا عبده إلى ممارسة ضغوط دولية حازمة على السلطات الإسرائيلية لتحقيق هدفين رئيسيين: أولاً، الكشف عن مصير آلاف الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين المفقودين من غزة، وثانيًا، ضمان حماية أرواح المدنيين وأفراد فرق الإنقاذ، بمن فيهم عناصر الدفاع المدني، الذين يبذلون جهودًا مضنيةً في عمليات إزالة الأنقاض.
42 مليون طن من الدمار: تحدٍّ إنساني وبيئي هائل
على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها قطاع غزة - والتي تجاوزت 40 ألف شهيد وتشريد مئات الآلاف على مدار الأشهر الأحد عشر الماضية - فإن الوضع الإنساني يزداد سوءًا مع استمرار تقييد وصول المساعدات الخارجية، ما يهدّد بكارثة إنسانية متفاقمة.
وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن الغارات الجوية الإسرائيلية قد خلّفت ما يزيد على 42 مليون طن من الأنقاض في أرجاء قطاع غزة، ولتقريب الصورة، فإن هذه الكمية الهائلة من الحطام، كفيلة بملء صف متواصل من الشاحنات الضخمة يمتدّ من نيويورك إلى سنغافورة.
إن عملية إزالة هذا الكم الهائل من الأنقاض، تشكّل تحديًا لوجستيًا وماليًا ضخمًا، إذ قد تستغرق سنوات عديدة وتتطلب استثمارات تصل إلى 700 مليون دولار أمريكي، وهذا يبرز الحاجة الملحة لتضافر الجهود الدولية لمعالجة هذه الأزمة الإنسانية والبيئية غير المسبوقة.
وكشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة في شهر مايو/أيار، عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة، مقدرًا أن عملية إعادة إعمار المساكن المدمرة قد تستغرق ما يناهز ثمانية عقود، بتكلفة إجمالية تصل إلى 80 مليار دولار أمريكي لإعادة بناء القطاع بأكمله.
ومع استمرار الأعمال العدائية في غزة، يتفاقم حجم الدمار يومًا بعد يوم، ما يؤدي حتمًا إلى تمديد الفترة المتوقعة لإعادة الإعمار، وهذه التقديرات تسلط الضوء على التحدي الجسيم الذي يواجه إعادة إعمار الأراضي الفلسطينية، في أعقاب أشهر من العدوان الإسرائيلي الذي أسفر عن تدمير واسع النطاق للمساكن والبنى التحتية.
وفي هذا السياق، أدلى البروفيسور مارك جارزومبك، أستاذ تاريخ العمارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والمتخصص في دراسات إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، بتصريح لوكالة بلومبرج قائلاً: "ما نشهده في غزة هو ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ التخطيط الحضري، إنه تدمير ممنهج للمؤسسات الأساسية للحكم وللنسيج الاجتماعي للمدنيين".
وقد أعلنت الأمم المتحدة أن عملية إزالة الأنقاض والتخلص منها، ستتطلب جهود آلاف العمال، مشيرةً إلى النقص الحاد في القوى العاملة اللازمة للعمل المتزامن في غزة وأوكرانيا، وما يزيد الوضع تعقيدًا، فقد لقي المئات من العاملين في مجال الإغاثة وحقوق الإنسان، الذين كان بإمكانهم تخفيف وطأة المعاناة عن سكان غزة في هذه الظروف الكارثية، حتفهم وارتقوا شهداء على يد القوات الإسرائيلية خلال العدوان على غزة.
القتلة الصامتون تحت الأنقاض
إضافةً إلى النقص الحاد في الموارد البشرية والمعدات، يبرز تحدٍّ آخر يعقّد عملية إزالة الأنقاض، وهو انتشار الذخائر غير المنفجرة في غزة، وقد سبق لمنظمة "هانديكاب إنترناشيونال" الإنسانية الدولية، أن نبّهت إلى وجود آلاف القنابل غير المنفجرة في غزة، ما يشكّل تهديدًا وجوديًا لسكان هذا القطاع المحاصر.
وعليه، فإن وجود آلاف الذخائر غير المنفجرة تحت أنقاض غزة، ينذر بمأساة إنسانية متجددة، إذ قد يؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا وإصابة المدنيين وعمال الإغاثة أثناء عمليات إزالة الأنقاض، ما قد يتسبب في ارتفاع تصاعدي في عدد الضحايا.
وفي تصريح مثير للقلق أدلى به بير لودهامار، الرئيس السابق لوكالة الأمم المتحدة لإزالة الألغام في العراق، في شهر أبريل/نيسان، كُشف النقاب عن حقيقة مروعة: ما يقارب 10% من الذخائر المستخدمة في النزاعات تبقى دون انفجار، ما يستدعي تدخلاً متخصصًا لإزالتها.
وأضاف لودهامار، مسلطًا الضوء على حجم المأساة في غزة: "إن 65% من المباني المدمرة هي منشآت سكنية، وبالتالي، فإن عملية التطهير وإعادة الإعمار ستكون بالغة البطء والخطورة، نظرًا للتهديد المستمر من القذائف والصواريخ وغيرها من الأسلحة المدفونة في أنقاض المباني المنهارة أو المتضررة".
وتكشف التقارير الميدانية عن مأساة إنسانية متفاقمة، حيث لا يزال الآلاف محاصرين تحت الأنقاض، مع احتمال وجود ناجين، بيد أن جهود الإنقاذ تصطدم بعقبة کبيرة، ألا وهي خطر تفجير الذخائر غير المنفجرة المدفونة في الركام، ما قد يحوِّل عمليات الإنقاذ إلى مآسٍ جديدة، وقد أفاد الدفاع المدني في غزة بأن أكوام الأنقاض أضحت حقولًا من الموت، إذ تشهد أكثر من 10 انفجارات أسبوعيًا، حاصدةً أرواحًا وأطرافًا.
وتتعدى التحديات خطر المتفجرات، لتشمل الطبيعة المعقدة للأنقاض ذاتها، فالكتل الخرسانية والحديدية الضخمة تستعصي على الجهود اليدوية، مستدعيةً استخدام معدات ثقيلة قد لا تتوافر في ظل الحصار المفروض، كما أن هناك خطرًا داهمًا يتمثل في احتمال انهيار المباني المتصدعة على فرق الإنقاذ، ما قد يضاعف من حجم الخسائر البشرية بشكل مأساوي.
ولوضع حجم التحدي في منظوره الصحيح، نستحضر مأساة 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث استغرقت عملية إزالة أنقاض برجي مركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة أشهرًا طويلةً، رغم توافر أحدث التقنيات والموارد. وبالقياس، فإن غزة، المحرومة من مثل هذه الإمكانيات، قد تواجه هذه الأزمة لعقود قادمة.