الوقت- بعد عشر أشهر متواصلة من القتل والعنف و التدمير و التخريب طالت الحجر و البشر لم يحقق جيش الاحتلال الاسرائيلي لمجتمعه الداخلي سوى معنويات محطمة و ميول انتحارية وأزمة صحة نفسية غير مسبوقة و هذه الأزمة مرتبطة بشكل كبير بموضوع الرهائن و عدم قدرة جيش الاحتلال الذي لطالما تغنى بقدراته و تفوقه العسكري والاستخباراتي على تحريرهم، وفي الوقت الذي تعترف فيه وسائل الإعلام الإسرائيلية بالخسائر الفادحة التي يتكبدها جيش الاحتلال والتي تفوق الأرقام الرسمية المعلنة يبدو أن مجريات الحرب على غزة لا تفرض ثمناً باهظاً في الإصابات الجسدية لجنود الاحتلال فحسب إنما تؤجج الميول الانتحارية و تعزز الإحباط و عدم الثقة بالجيش و الحكومة الاسرائيلية.
وفي هذا السياق، كشفت دراسة نشرت في مجلة (ذي لانسيت) الطبية البريطانية أنّ كل سكان الكيان المحتل “تعرضوا بطريقةٍ أوْ بأخرى لتداعيات هذا الهجوم غير المسبوق من حيث النطاق وهول الصدمة النفسية”.
صدمة نفسية وطنية جسيمة
في الحقيقة نتجت الصدمة النفسية والميول الانتحارية لدى المجتمع الاسرائيلي لسببين، أولهما صدمة الهزيمة العسكرية المدوية والإخفاق الأمني والاستخباراتي الذي نتج عن إطلاق المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وثانيهما ورطة وقوع عدد هائل من الأسرى لدى كتائب القسام والفصائل الفلسطينية الأخرى، وعدم قدرة جيش مدجج بالسلاح و مدعوم من الغرب بأكمله على تحريرهم بعد أشهر من القصف والتدمير.
وفي هذا السياق تطرقت الدراسة البريطانية حول الأوضاع النفسية التي يعيشها المجتمع الاسرائيلي إلى ما يسمى “صدمة نفسية وطنية جسيمة” نظرًا لعدد الأعراض التالية للصدمة وحالات الاكتئاب والكرب، ما يؤشر إلى أثرٍ ملحوظٍ على الصحة النفسية للإسرائيليين.
ومنذ اليوم الذي نفّذت فيه حركة حماس هجومها ، تضاعفت تقريبا الاتصالات التي يتلقّاها خطّ الطوارئ “عران”، حسب ما كشفت شيري دانييلز المسؤولة في هذه المنصة الهاتفية والإلكترونية للإسعافات النفسية، و في هذا السياق كانت صحيفة هآرتس العبرية قد كشفت النقاب عن قيام أربعة أساتذة جامعات في مجال الطبابة النفسيّة منذ السابع من أكتوبر الماضي بالبدء بإجراء مسحٍ لحالة الإسرائيليين النفسية عقب عدوان الاحتلال على قطاع غزّة، وتبيّن من البحث الذي ما زالوا يجرونه أنّ أكثر من أربعين بالمئة من أبناء المجتمع الصهيونيّ مصابون بالاكتئاب ويعانون من أعراض الصدمة النفسيّة، وبالتالي فهم بحاجةٍ لعلاجٍ نفسيٍّ في محاولة لإخراجهم من هذا الوضع الذي يؤثّر بشكل سلبي على سلوكهم اليوميّ.
فرق لمكافحة الانتحار
تردي الروح المعنوية لجنود الاحتلال المشاركين في الحرب على غزة بدأ يظهر للعلن منذ الأيام الأولى للحرب على غزة، وفي هذا الخصوص تم تشكيل فرق من أطباء نفسيين وممرضين في قمة التأهيل في جيش الاحتلال الاسرائيلي تكون مهمتهم التعامل مع الميول الانتحارية للجنود، وإجراء تقييم للجنود الذين يعانون من اضطرابات نفسية، ويشمل هذا البرنامج الجنود الذين يتلقون العلاج من حروب "إسرائيل" السابقة على غزة ويفوق عددهم الـ 13.500 جندي، فيما انضم أكثر من خمسة آلاف جندي إلى قائمة إعادة التأهيل النفسي بينهم 3 بالمئة يعانون من حالة خطيرة، و18 بالمئة من مشاكل عقلية بسبب “اضطراب ما بعد الصدمة”.
وقالت رئيسة وحدة الخدمة الاجتماعية في قسم إعادة التأهيل، نوا روفا: إنّ بعض الجنود الذين ساءت حالتهم النفسية، أصبحوا يتصلون بمشرفيهم أوْ أفراد أسرهم طلباً للإغاثة، مؤكدة أنّ الأعداد سوف تتضاعف خلال عامين.
وتابعت: “عندما يكون لدي جندي معوّق يخبرني بأنه في محنة وقرر عزل نفسه، وأنه يفكر في إيذاء نفسه، الشيء الوحيد الذي نفعله هو إخبار الشرطة، وفي كثير من الأحيان، يؤدي استدعاء الشرطة إلى تفاقم الوضع".
وأضافت: “من هنا ولدت فكرة فريق الأزمات وهي وحدات متنقلة على مدار الساعة، من ممرضين وأطباء نفسيين ومسعفين يعرفون كيف يتعاملون مع الميول الانتحارية”.
وكانت القناة الـ 12 بالتلفزيون العبريّ، قد كشفت في وقت سابق، أنّه تم تصنيف 3000 من جرحى الحرب، التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيليّ على قطاع غزة، بأنّهم “أصحاب إعاقات دائمة في الجيش".
ويعاني الجنود العائدون من غزة، من صدمات نفسية وكوابيس مزعجة من هول مشاهد الحرب، وحسب تقارير عبرية، فإنّ المستشفيات تحقن المضطربين بمواد مخدرة ليتمكنوا من النوم.
اعترافات صادمة
من المشاهد الصادمة التي نشأت عن الصدمة النفسية لجنود الاحتلال يمكننا نقل ما استعرضه مراسل شؤون الجيش والأمن بالقناة 12 الإسرائيلية أور هيلر، من خلال واقعة أحد جنود فرقة المظليين في عسقلان حيث أطلق النار بعدما استيقظ في منتصف الليل نتيجة كابوس، ما أدى إلى إصابة بعض زملائه بإصابات خفيفة من الشظايا.
وقبل يومين أدلى جندي إسرائيلي عاد من قطاع غزة باعترافات صادمة أمام جلسة في الكنيست، مؤكّدًا أنّه “يتبول على نفسه” من الرعب ليلاً وهو يرى الفلسطينيين يزورونه في كوابيسه ليسألوه: “لماذا قتلتنا؟".
وقال الجندي أفيخاي ليفي، الذي انسحب من معارك غزة: “أتخيل الآن أن قذائف آر بي جي تطير فوق رأسي، وأتخيل نفسي داخل الجرافة وأقاتل وأشم رائحة الجثث”،
وأضاف “أتبول على نفسي خلال نومي من الخوف.. ولا أتمكن من النوم إذا لم أشرب زجاجة كحول".
كما حمّل مسؤولية ما حصل له ولرفاقه للحكومة الإسرائيلية، قائلاً إنّها “تخلت عنا في الحرب”، وأضاف خلال اعترافاته: “أنا قتلت رجالاً بيدي من أجلكم وأنتم تقولون إنّ الإرهابيين تلطخت أيديهم بالدماء، أنا قتلت من أجلكم أكثر من 40 إنسانًا".
جيش هش
الهشاشة المعنوية التي يعيشها جنود الاحتلال نابعة في الأساس من الافتقار للعقيدة والانتماء للأرض فهؤلاء الجنود يقاتلون في المعركة تنفيذاً للأوامر فحسب وفي ظل حروب عديدة خاضها جيش الاحتلال يمكن مشاهدة عدم امتلاك جنوده للعقيدة القتالية القوية التي من شانها أن تمكنه من التعامل مع ضغوط المعارك ومخاطرها بشكل فعال، ويعدُّ أن ازدياد حالات الانتحار بين الجنود واقعًا طبيعيًا نتيجة للتفكك الداخلي للجيش والحكومة، على الرغم من امتلاك جيش الاحتلال تجهيزات وعتادًا متطورًا وقدرات مالية وتكنولوجية تُعَدُّ الأفضل في الشرق الأوسط، ومع ذلك فإن غياب إرادة القتال يشكل نقطة ضعف كبيرة.
كما يمكن القول إن انتشار حالات الانتحار بين جنود جيش الاحتلال يعود إلى عدم قناعتهم بضرورة المشاركة في المعارك، حيث إن هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها، فقد شهد الجيش الأمريكي موجات من الانتحار في أثناء حرب "فيتنام"، وكذلك الجيش الفرنسي خلال احتلال الجزائر فهذا أمر مشترك بين كل مستعمر غاصب.
ختام القول
بتأثير الحالة النفسية لوقائع صدمة السابع من أكتوبر نجد أنه حتى القادة الكبار في جيش الاحتلال يعيشون إلى اليوم هول الصدمة فقد ذهب الإسرائيليون مباشرة منذ اليوم الأول إلى الهدف النهائي لأي حرب وهو "تدمير العدو"، وكان هذا سقفا عاليا ربما يعرفون بحكم ما خبروه سابقا أنه لن يتحقق في حالة حركة حماس، وإن حصل فلن يكون إلا بأثمان لا يقدرون على دفعها.
