الوقت - فرانسوا بورغا، 76 عاماً، أستاذ العلوم السياسية بجامعة إيكس أون بروفانس، وباحث بارز في المعهد الوطني للبحث العلمي في فرنسا، والرئيس السابق لمركز أبحاث العالم الإسلامي والعربي بجامعة إكس.
وحسب إعلان المحكمة، فإن هذا الاعتقال جاء بسبب تصريحاته حول اقتراب نهاية "إسرائيل" بعد عملية "طوفان الأقصى"، وتم استدعاؤه إلى المحكمة عند الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء الماضي للتحقيق معه، وتم إطلاق سراحه بكفالة عند الساعة الثامنة مساء بتوقيت فرنسا، لكن التحقيق سيستمر حسب المحكمة.
وأعلنت الشرطة الفرنسية، الثلاثاء الماضي، اعتقال والتحقيق مع هذا المفكر الداعم لأهل غزة، بتهمة "الدفاع عن الإرهاب"، ويأتي هذا الاعتقال بسبب تصريحاته الداعمة للقضية الفلسطينية، وإدانة جرائم الکيان الإسرائيلي في غزة.
وأعلن رفيق شكات، المحامي الفرنسي الذي يدافع عن بورغا، أنه متهم بدعم الإرهاب، ويبدو أن المدعي كان أحد جماعات الضغط المؤيدة للکيان الإسرائيلي في فرنسا وأوروبا.
واستنكر محامي بورغا، في تدوينة له على منصة "إكس"، هذا التصرف، وأكد أن "مكان الباحث والأستاذ الجامعي ليس في مركز الشرطة"، وأعلن لوكالات الأنباء أن "منظمةً يهوديةً أوروبيةً تقدمت بشكوى ضد بورغا، الخبير في شؤون العالم العربي والإسلامي، بسبب إعادة نشر منشور على منصة إكس في 2 كانون الثاني/يناير الماضي".
وأوضح أن "بورغا يعطي إجابات صادقة انطلاقاً من موقعه كباحث والكتب التي ألفها"، وأضاف هذا المحامي إن فرانسوا بورغا تم استجوابه في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ والمحكمة الجنائية، وأتيحت له الفرصة للتعبير عن رأيه حول الصراع في غزة والشعب الفلسطيني.
سبب الاعتقال.. مقابلة حول عملية "طوفان الأقصى"
في تدوينة على موقع "إكس"، قال بورغا إنه فخور بحصوله على "أفضل وسام" في العلوم من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ساخراً من استدعائه للاستجواب والتحقيق في اتهامات بـ"تمجيد الإرهاب".
وحسب الأخبار المنشورة حول هذا الموضوع، فإن جذور هذه القصة تعود إلى المقابلة التي أجراها فرانسوا بورغا مع مجلة "لسان المغرب" حول عملية طوفان الأقصى، وحسب المحكمة الفرنسية في إيكس أون بروفانس، وصف فرانسوا بورغا العملية بأنها "مخططة لتدمير إسرائيل على المدى المتوسط"، وأكد أن الهجمة غير المسبوقة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ستكون نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط والعالم.
وحسب هذا النبأ، انتقد فرانسوا بورغا بشدة العدوان الإسرائيلي على غزة، ويعتقد أن وسائل الإعلام الغربية فشلت في تدمير صورة حماس، وشدد على أن حماس "تعززت بشكل كبير".
فرانسوا بورغا هو أحد مناصري الشعب الفلسطيني في غزة، واتخذ حتى الآن العديد من الإجراءات في السنوات الأخيرة لدعم الشعب الفلسطيني، وإدانة قتل "إسرائيل" للفلسطينيين على الصعيد الأوروبي.
وفي تصريحات مختلفة أدت إلى اعتقال بورغات، دعم بورغات علنًا غزة
وفي منشور له على "إکس" في وقت سابق من هذا العام، أعلن أنه "يكن احتراماً وتقديراً لقادة حماس أكثر من قادة إسرائيل"، كما انتقد موقف فرنسا تجاه حماس، ووصفه بأنه "استسلام لسياسة أمريكا وإسرائيل"، وسبق أن استدعت الشرطة الفرنسية عالم السياسة الفرنسي "فرانسوا بورغا" لاستجوابه، نهاية يونيو الماضي بتهمة "تمجيد الإرهاب".
من هو فرانسوا بورغا؟
ألّف فرانسوا بورغا، المستشرق الفرنسي الكبير، أربعة كتب أساسية عن حركة الإسلام السياسي، حيث بدأ بكتابه "الإسلام السياسي: صوت الجنوب" (2001)، الذي يتناول الحركة الإسلامية في المغرب العربي.
ثم ألّف كتاب "وجهاً لوجه مع الإسلام السياسي" (2002)، وكتابه الثالث يحمل عنوان "الإسلام السياسي في زمن القاعدة" (2005)، وأخيراً كتاب "فهم الإسلام السياسي"، الذي ترجم إلى اللغة العربية، وصدر عن "دار الساقي" للنشر في لبنان عام 2017.
"فرانسوا بورغا" اسم بارز في مجال "فهم الإسلام السياسي المعاصر"، ليس فقط لأنه كرّس حياته لدراسة هذه الظاهرة، وقضى سنوات طويلة من حياته في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً لأن وجهة نظره في دراسة ظاهرة الإسلام السياسي، تلعب دوراً مهماً في فهم الاتجاه السياسي المعاصر في الدول الإسلامية، وبالمناسبة، ينبغي دراسة موقفه الداعم لشعب فلسطين وقطاع غزة في هذا الإطار.
ومن المعروف عن فرانسوا بورغا دعمه للقضية الفلسطينية، ومعارضته للتمييز وخطاب الكراهية ضد المهاجرين في فرنسا، وخاصةً مهاجري شمال أفريقيا في فرنسا، وسبق أن تعرض لهجمات إعلامية واسعة، بسبب مواقفه التي تعكس خبرته البحثية العميقة في مجال العالم العربي والحركات الإسلامية.
وقد زار بورغا إيران عدة مرات بدعوة من مراكز الدراسات الإيرانية، بما في ذلك مكتب الدراسات التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، وبعض المراكز الأكاديمية والدراسية الأخرى في إيران، وفي هذه الرحلات، شارك أحدث مراجعاته ودراساته مع أساتذة الجامعات، بما في ذلك قسم العلوم السياسية بجامعة الشيخ المفيد.
وخلال نصف القرن الماضي، كان للبروفيسور فرانسوا بورغا أنشطة أكاديمية وبحثية مهمة في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، حيث قام بالتدريس لسنوات طويلة كأستاذ للقانون والعلوم السياسية في جامعات الجزائر ومصر، ويتقن اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة، وله مكانة علمية وأكاديمية مهمة في دول شمال أفريقيا.
وكان أحد الأعضاء البارزين والمعروفين في أكاديمية دراسات العالم العربي والإسلامي بجامعة إيكس أون بروفانس (IREMAM)، والمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (Centre national de la recherche scientifique CNRS)، والأكاديمية الفرنسية لدراسات الشرق الأدنى (IFPO)، التي لها وكالات دراسية في سوريا ولبنان والأردن.
كما شغل منصب مدير مركز الأبحاث التاريخية الفرنسي في مدن دمشق وبيروت وصنعاء لسنوات عديدة، وله اتصالات مع رؤساء الحركات الإسلامية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ومن بينهم قيادات جماعة الإخوان المسلمين.
فرانسوا بورغا والإسلام السياسي المعاصر
ولد فرانسوا بورغا عام 1948 في مدينة "شامبيري" في منطقة "رون ألب" شرق فرنسا، ودرس القانون في جامعة غرينوبل في فرنسا، وحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير من هذه الجامعة.
ثم جاء إلى المنطقة العربية بالصدفة، لكنه بقي هناك لمدة 23 عاماً، وسافر خلال هذه الفترة إلى العديد من الدول العربية، مثل الجزائر ومصر واليمن وسوريا والسعودية، وجاء إلى الجزائر لأداء الخدمة الوطنية، لكنه رفض قبول الخدمة العسكرية في هذا البلد، ومن ثم تم تعيينه لتدريس الحقوق في كلية الحقوق بمدينة قسنطينة، وبقي هناك لمدة سبع سنوات، حيث زاد اهتمامه بالعالم العربي.
كانت إقامة فرانسوا بورغا الطويلة في الجزائر، فرصة له لترك حدود ثقافته الفرنسية، والدخول إلى عالم جديد وثقافة جديدة فاجأته وأثارت اهتمامه، وفي عام 1989 انتقل بورغا إلى مصر، وعمل حتى عام 1993 في مركز التوثيق الاقتصادي والقانوني بالقاهرة، ومؤسسات التعليم العالي التابعة لها.
وفي عام 1997، ذهب بورغا إلى اليمن، للعمل مديراً للمعهد الفرنسي للعلوم الاجتماعية والآثار بصنعاء، وبقي في هذا المنصب حتى عام 2003.
وبين عامي 2008 و2013، عمل بورغا مديراً للمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، وكان مسؤولاً عن فروع المعهد في الأردن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين، وفي عام 2018، أصبح عضواً في مجلس العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي، وقاد العديد من البرامج البحثية الجماعية في هذا الاتحاد، من أجل دراسة التطورات في الدول العربية وتقديم الحلول.
وقدّم بورغا في هذه الدراسات وجهة نظر مختلفة عن التيارات السائدة في الأكاديميات الغربية، في تحليل مشكلات العالمين الإسلامي والعربي، حيث تعزو العديد من التيارات السائدة هذه المشاكل إلى جذور ثقافية ودينية، في حين ألقى بورغا باللوم على الاستعمار الغربي وآثاره التاريخية على العالم العربي والإسلامي، باعتباره المسؤول إلى حد كبير عن الوضع الحالي للمنطقة.
ولا يعتبر بورغا برنامج الإسلام السياسي غامضاً أو مربكاً، لدرجة أنه لا يمكن فهمه بشكل كافٍ في الغرب، ويرى أن وراء التعبيرات الدينية، غالباً ما يكون هناك مطلب للحقوق العامة، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو في الشأن المحلي أو العالمي.
وينظر بورغا إلى تطور هذا الاتجاه كأسلوب سياسي، للتركيز على الهوية والتعبير عن الرغبة في "اعتراف جديد بالدول العربية والإسلامية"، بعد فترات متتالية من الحكم الاستعماري.
ويعتبر بورغا في كتاباته، أن الاتجاهات الإسلامية هي مجموعات بشرية لا يمكن فهمها من خلال دراسة معتقداتها فقط، بل من خلال فهم الحقائق الاجتماعية وظروفها المحلية كحركة ديناميكية ومتغيرة باستمرار، دون الاعتماد على مفاهيم ثابتة في فترة محددة.
خطاب الإسلام السياسي رد فعل على الاستعمار الغربي
وحسب الدكتور فرانسوا بورغا، فإن خطاب الإسلام السياسي هو رد فعل ضد الاستعمار الغربي، يريد خلاله قسم كبير من العرب والمسلمين المعاصرين، تبني مفرداتهم السياسية الأصيلة والموروثة ضد الخطاب السياسي للغرب الاستعماري، وضد الطيف السياسي العلماني التابع للمستعمرين.
ومن وجهة نظره، فإن حصر آثار الشريعة في نطاق قانون الأحوال الشخصية في العديد من الدول العربية والإسلامية وترسيخ العلمانية، قد خلق نوعاً من الفصل بين الثقافة التاريخية المحلية والشؤون العامة، ولذلك، فقد نظر العديد من المتدينين إلى العلمانية على أنها نوع من العدوان الرمزي في هذه البلدان.
ويرى أن عنف المؤمنين بالفكر "الجهادي"، ينتشر بقدر انتشار العنف الغربي وعالميته، ولا يمكن دراسة هذين الأمرين بشكل منفصل، ويعتقد أن هناك منافساً جدياً للفلسفة الغربية في الدول العربية والإسلامية، فإذا تحدثت مع هذا المنافس باللغة الفرنسية، سيجيبك باللغة العربية، وعندما يسمع كلمة "العلمانية"، فهو يفهمها على أنها تعني "المادية"، وإذا تحدثت عن "الحكومة"، فهو يفضّل الحديث عن "الأمة"، وإذا تحدثت عن "الديمقراطية"، فهو يتحدث عن "الشوری"، ويتمتع هذا المنافس بتاريخه الخاص ومفرداته الفريدة، ونظرته المستقلة للعالم والوجود.
ويرى بورغا أن موجة تصفية الاستعمار لم تظهر بعد كل عواقبها، رغم أن بعض المحللين يميلون إلى سرعة الحكم، ويعتقدون أن عملية تصفية الاستعمار انتهت تماماً، وأصبحت شيئاً من الماضي.
وفي هذا الإطار، يحلل بورغا ظاهرة الإسلام السياسي كجزء من عملية المواجهة مع الاستعمار الغربي وجهود التخلص منه، والتي يبدو أنها مرت بمراحل مختلفة، وإحدى هذه المراحل هي مرحلة التخلص من الوجود العسكري الاستعماري، والمرحلة الأخرى ستشمل التغلب على آثاره الثقافية.
ويعتبر بورغا أن هذا التحليل هو أفضل طريقة لفهم نشأة الإسلام السياسي، فلا يقتصر التحليل فقط على التناقضات المتعلقة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية لهذه البلدان، أو حتى في إطار فرضية العودة العالمية لأهمية عنصر الدين في المجال السياسي.
إن اهتمام فرانسوا بورغا بتطورات العقود القليلة الماضية في العالم الإسلامي والعربي، يظهر أن الحركات الإسلامية حظيت باهتمام عالمي على مختلف المستويات، بما في ذلك المستوى الأكاديمي، حيث أصبح الموضوع محل اهتمام العديد من الباحثين، وهؤلاء الباحثون ليسوا عرباً ومسلمين فقط، بل أصبح الغربيون مهتمين بها أيضاً.
وأخيراً، يعتقد فرانسوا بورغا أنه في ظل صمت الغرب والمأساة الكبرى التي تحدث في غزة، لن يكون لدى الغرب أي كلمات جديدة للعالم العربي والإسلامي، وكل علوم الغرب النظرية والإنسانية تنهار أمام أعين مواطني العالم الإسلامي والعربي.
لقد خلّفت الحرب التي تشنها "إسرائيل" على غزة، بدعم من الولايات المتحدة منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر، أكثر من 126 ألف قتيل وجريح فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وهناك أكثر من 10 آلاف مفقود، وسط الدمار الهائل والمجاعة التي أودت بحياة عشرات الآلاف من الأطفال والمواطنين العاديين.
وتتجاهل تل أبيب الحرب، وقراري مجلس الأمن الدولي بوقفها فوراً، حيث أمر محكمة العدل الدولية باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الإبادة الجماعية، وتحسين الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة.